pregnancy

الأستاذ / عبد الرحمن معوض - معلم خبير لغة عربية وتربية إسلامية - السنبلاوين - دقهلية


اثر الاسلام في الشعر الجاهلي

¦¦اثر الاسلام في الشعر الجاهلي ..!! ؛ ¦¦
وجدت من البديهيات المتفق عليها لدى معظم الباحثين في الشعر العربي القديم «ان القصيدة العربية استقرت لها تقاليدها الفنية وبلغت قمة نضجها في اواخر العصر الجاهلي ويمضي بعض الباحثين قاطعا بهذه الحقيقة‏» (1) . ان العرب عند ظهور الاسلام كانوا اصحاب شعر بلغ درجة رائعة من التطور والكمال الفني، واصبح هذا الشعر هو الصورة المثالية للشعر العربي في العصور التالية، فبقيت تقاليده وفنونه مسيطرة خلال العصور، «وانتقلت الى اللغات الاخرى اوزانه ومفاهيمه الفنية‏». (2)
ومما لاشك فيه انه ببزوغ شمس الاسلام ظهرت الحمرة المغربية للعصر الجاهلي حتى وجد العرب انفسهم على مشارف عصر جديد ومرحلة جديدة، شملت‏سائر مجالات حياتهم من دينية واقتصادية واجتماعية وسياسية ومن هنا اصبح لزاما على الادب في ذلك الوقت ان يتفاعل مع الواقع الجديد وان ينسجم مع متغيرات هذه المرحلة الجديدة التي اصطلح المؤرخون على تسميتها بصدر الاسلام; فالى اي حد استطاع الادب ان يتفاعل او يتكيف او يتشكل في ظل هذه الظروف الجديدة؟ او بلفظ اخر، ماهو التحول الفكري الذي لحق بالادب ورجاله وماهي الطاقة او القدرة التي استطاع بها (الادب ان يتكيف) او ينصاع الى بودقة الظروف الجديدة تحت تاثير ذلك التغيير الجذري الذي اتى به الاسلام في صميم العربية؟
ان الاجابة على مثل هذا السؤال، تختلف باختلاف الباحثين ومناهجهم واذواقهم «ذلك ان قضية ازدهار الشعر او ضعفه في صدر الاسلام، تعد من الامور الادبية المستعصية، لاختلاف اراء المؤرخين والباحثين وبعد وجهات نظرهم‏» (3) ومع ذلك فسنحاول ان نعرض لطائفة من هذه الاراء والاقوال لكي نصل الى محصل قريب من الصواب فيما يتعلق بهذه القضية، ولكن لندع انفسنا نسال ماهي بداية ذلك التغيير الجذري الذي اتى به الاسلام للحياة العربية الجاهلية؟
لقد بدا الدور الحضاري المؤثر لشبه جزيرة العرب قبل القرن السابع الميلادي، فقد كان العرب يعيشون في ظل الجاهلية وقيمها وقوانينها وحصل ذلك الانقلاب على اثر ظهور الدعوة الاسلامية وانطلاق الفتوح العربية من شبه الجزيرة وعبر عن نفسه في ثلاثة تيارات متواكبة، تركت اثارها واضحة على المسار التاريخي والحضاري انذاك ولازال هذا الاثر مستمرا حتى الان وتمثل احدى هذه التيارات في نشر الدين الاسلامي وانتشاره بين مجموعات بشرية تمثل كل العناصر تقريبا، تنتشر في مناطق تمتد من المحيط الاطلسي غربا الى جزر اندونيسية شرقا، وهو دين لايقتصر على الجانب الروحي، بل يشمل طرقا للتعامل تشكل اسلوبا للحياة يمارسه في الوقت الحاضر اكثر من مليار شخص، والتيار الثاني كان حركة التعريب التي انتهت‏بان اصبحت اللغة العربية هي لغة الحياة اليومية والرسمية - حيث اصبحت اللغة العربية لغة شعوب كثيرة ذات جنسيات متنوعة اما التيار الثالث فهو «الحركة العلمية والثقافية النشطة التي قام بها العرب او شجعوا عليها وهياوا لها الاجواء المناسبة‏» (4) ولقد استوعبت هذه الحركة الحضارات القديمة التي كانت موجودة بالمنطقة المحيطة بشبه الجزيرة في مصر وسوريا ووادي الرافدين وبلاد فارس، كما استوعبت الملامح الرئيسية للحضارة اليونانية والرومانية وطورتها في فترة الركود العلمي والثقافي التي عرفتها اوربا في العصور الوسطى... «ومن الملاحظات المهمة التي تركها الاسلام في نفوس المسلمين، هو توحيد صفوف قبائلهم‏» (5) والقران الكريم اشار الى هذا في قوله: «انما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين اخويكم‏» (6) «فهذا نداء عام شمل كل من في حيز الاسلام وان يتحدوا في رباط الاخوة‏» (7) .
«ونحن نعلم ان الظلام الدامس الذي كان يعم المجتمع الجاهلي وما يملكه من معتقدات فاسدة لاتقدم للانسانية سوى الشرور والحروب والعبودية العمياء، وسرعان ماجاء الاسلام وحطم كل قيم الجهل واستبدلها بقيم الرقي الاسلامي‏» (8) حيث انه:
1. جاء بعقيدة التوحيد، بعدان كانت الوثنية تعم ذلك المجتمع، فاخذ بيد الانسان الى جادة الهدى والخير ورسم له طريق الصلاح والاصلاح وابعده عن طرق الشر والفساد، فقد اشار الجليل في محكم كتابه: «جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها...» ومقابل ذلك، ذكر الوعد والوعيد في كثير من مواضع القران الكريم منددا بالجهلاء والكفار، بان لهم جهنم خالدين فيها وبئس المصير.
2. حقق للانسان كرامته الحقيقية التي من اجلها خلق، والعدالة الاجتماعية والحرية التي يملكها كل مخلوق، فلاطبقية في الاسلام، والتقوى هي الشعار المرفوع في المجتمع، فلافضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى والناس سواسية كاسنان المشط، فلافضل بين افراد المجتمع من اسياد وعبيد واحرار ورقيق; وهذه الرسالة السامية غريبة على كل المجتمعات الجاهلية التي امنت‏بالانفصال الطبقي في المجتمع فلامجال لذلك، فجاء الاسلام ورفع كابوس الجهل والفقر الطبقي (9) ، فحول الاسلام المجتمع الجاهلي من حال الى حال بشكل كلي.
ومن البديهي ان المفاهيم الجديدة التي انبتها الاسلام في اعماق المجتمع العربي، قد جعلت المجتمع الجاهلي في ميزان جديد، فقد احاط تاثيرها بالاخلاق والنظم والعمل التي تهم امور الدين (10) يتضح ذلك اذا مانظرنا الى اثره على كل من الفرد والمجتمع على حدة; ففيما يختص بالفرد، نلاحظ ان الاسلام نقله من الحرب الى السلم، ومن القوة الى القانون، ومن الثار الى القصاص، ومن الاباحية الى الطهر ومن النهب الى‏الامانة، ومن الحياة القبلية الى المسؤولية العامة ومن الوثنية الى التوحيد، ومن امتهان المراة الى اجلالها; والتغير الذي حصل بولادة الاسلام في الامة والفرد، فقد قلب قيم المجتمع الموجودة قبل الاسلام، بكل ماضيه من عادات وتقاليد، وصاغ الفرد صياغة جديدة بكل حركاته وسكناته، فقد تدخل بكل صغائر اعماله، فصار ذلك الفرد العقائدي الذي عجنت فيه ذرات العقيدة واصبح الفرد هو الراعي وهو المسؤول عن الرعية «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته‏»; «وتنظيم العلاقة بينهم وبين غير المسلمين، بما في ذلك من تقرير نظم الاسلام في امور السياسة والحكم والامور الاقتصادية والاجتماعية‏» (11) ، «وهكذا فبعد ان كانت الحياة قبل الاسلام تسير على قوانين العرف والتقاليد، والحق للقوة، اصبحت‏بعد الاسلام تسير على قوانين الشريعة الاسلامية والحق لصاحب الحق‏» (12) ويعبر الدكتور طه حسين عن هذا التحول الذي تم بظهور الاسلام بقوله: «ان الامة العربية قبل الاسلام كانت امة شعر، لها حياتها الاجتماعية والسياسية الخاصة، تعتمد في هذين النوعين من الحياة على العاطفة والشعور، اكثر من اعتمادها على الحكمة والرؤية، تندفع بحكم هذا الشعور الى الحرب او السلم اوالخصومة، او الى اية ناحية من نواحي الحياة الجاهلية، فلما جاء الاسلام، تغيرت‏الحياة العربية تغيرا تاما، تقوض النظام السياسي، دخل محل النظام القديم نظام‏جديد يعتمد على وحدة الامة العربية واخضاع الامم الاجنبية وادماجها في الاسلام، ثم كانت الفتوح واتصل العرب بالامم الاخرى اتصالا اخذ يشتد ويقوى حتى اصبح اختلاطا، ثم امتزاجا ونشا عنه ان اطلع العرب على‏اراء وافكار الامم ودياناتها وعلومها وفلسفتها ونشا عن ذلك كله ان تغيرت الحياة وتغيرت موضوعات التفكير واستلزم ذلك ان تتغير العبارة التي كانوا يعبرون بها عما في انفسهم ونشا لهم لسان جديد لم‏يكن لها من قبل وهو النثر الذي يعبر عن المعاني بدون القيود الشعرية (13) » ويتضح من راي الدكتور طه حسين هذا، مدى ماجاء به الاسلام من تحول ومدى ماكان لهذا التحول من ابعاد حضارية وفكرية انعكست‏بدورها على شؤون الحياة كافة، باختلاف ميادينها.
تاثير الشعر بالمناهج الجديدة في صدر الاسلام
والظاهر ان الميدان الحضاري الجديد الذي انشاه الاسلام بقواعده الرصينة وعلى اخصب ارض قد خلق سوقا جديدا من اسواق الادب العربي احتوى على اصناف الفنون الادبية المستحدثة ومن هذه الفنون: الكتابة والتدوين فانه في - ظلال المنطق - تكون هذه الحضارة قادرة على تطوير فنون مستحدثة وتحصين شعر وصف بالجودة وخلق موضوعات جديدة تتمشى مع المظاهر والقضايا التي استحدثتها تلك الحضارة في المجتمع الاسلامي العربي.
وهذا الاستنتاج المنطقي، تدعمه النصوص والوثائق الادبية، ممثلة انتاج الشعراء المبدعين في ظل الاسلام في عصوره الاولى الزاهية، ذلك ان «الحضارة الاسلامية تمخضت عن ثقافة واسعة وانشات اجيالا من العلماء والكتاب والمثقفين، بمختلف فنون الثقافات وعديد الوان المعرفة فكان على الشعر ان يعايش هذه الحياة بجوانبها الجديدة وان ينفذ الى اعماقها وان يواكب مسيرتها، وبالتالي، يعبر عنها تعبيرا صادقا مادام الشعر محافظا على جودته ماضيا في اداء رسالته‏». (14)
وان كان هذا القرار يتفق مع مبادئ الحضارة الاسلامية في فترة ازدهارها بصفة عامة، فاننا سنحاول ان نحدد مدى صلاحيته للاتفاق على فترة بعينها، هي الفترة التي اصطلح المؤرخون على تسميتها بصدر الاسلام، اي عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وحينئذ فسوف نجد انفسنا امام فريقين من الباحثين الذين تعرضوا لعصر صدر الاسلام من ناحية اثره على الشعر والشعراء، ففريق يثبت هذا الاثر ويؤكد بالادلة والشواهد الشعرية الساطعة وان اختلف في تحديده وتقديره وفريق ثان ينفي هذا الاثر او يعود به الى زمن لاحق لعصرصدر الاسلام، مستفيدا من بعض الموارد والشواهد للاعتماد عليها، وسنقوم بالقاء نظرة على نماذج من اراء كلا الفريقين:
ا) الاراء التي ترى تاثير الاسلام على الشعر في عصر صدر الاسلام
وينقسم هذا الفريق الى فئتين: فئة ترى هذا الاثر ايجابيا، وفئة اخرى تراه سلبيا.
ويعتمد اصحاب الفئة الاولى من هذا الفريق على مقدمة عامة واساسية تقول: بان الشعر كفن من فنون الادب يركد ويجمد حتى تركد الحياة وتصاب بالشلل الفكري، فهو ينمو بنمو المجتمع ويسمو بسموه فالانقلاب الجديد الذي حطم التقاليد او العلاقات الخارجية ومن هؤلاء الباحثين:
الدكتور بدوي طبانة الذي يرى: «ان الفكر الجديد هو الاسلام الحنيف اخذ يشق لنفسه طريقا جديدا فيصبح هو الناطق للدعوة الجديدة ويتركز بانتصاراتها وينشر فكرها في تطهير العقيدة وبناء المجتمع بصيغة جديدة، وفق قواعده والعمل للدنيا والاخرة كما اصبح رد فعل المشركين يظهر على لسانهم ويعلنون به اصرارهم على قديمهم ويدعون به الى الثبات والاستبسال في مقاومة الهدف والهداة بذلك انتقل الشعر من طور الى طور، بعد ان كان تعبيرا عن اهواء النفوس، وتشجيعا للعصبية الفردية، او العصبية القبلية اصبح ناشرا للمبادئ التي انحصرت في مبداين يسيران في اتجاهين متضادين، وكان هذا عاملا من اهم العوامل التي اثبت للشعر سلطانه وزادته قوة في الحقبة الاولى من صدر الاسلام‏». (15)
وهذه النظرة التي على اساسها يرى الدكتور طبانة ومناصروه ان الشعر ازداد قوة في صدر الاسلام، نظرة تعتمد على مضمون الشعر فقط على حساب شكله وعناصره الفنية.
الاشتراك في المباني بين شعر الجاهليين وصدر الاسلام وان كانت معاني الشعر لم‏تبعد كثيرا من معاني الجاهليين، فلايزال الفخر بالاباء والاجداد، والدكتور الطاهر يرى «ان شعراء كل قبيلة وافرادها يروون شعر اسلافهم، وظهور شاعر كبير مدعاة للفخر والاحتفاظ باثاره شي‏ء تفترضه العصبية، وضياعها امر يمس شرف القبيلة‏» (16) وهذا الفخر يختلف عن الفخر الذي جاء به الاسلام وذلك لارتباطه بالعقيدة فنلاحظ وجود الفخر بالاباء والاجداد ولايزال التمجد بالكرم والشجاعة وحسن البلاء ولاتزال الاشادة بالانتصارات التي يحرزها احد الفريقين (وان تغيرت الظروف وتغير الموضوع).
يتضح من ذلك التحفظ ان الدكتور بدوي طبانة يؤكد على المعاني والمضامين مهملا الشكل والعناصر الفنية الاخرى، مثل الصورة واللغة والموسيقى وغيرها من قضايا الشكل الفنية.
ويدلل الدكتور بدوي طبانة على ازدهار الشعر في صدر الاسلام، بما يراه «من ان العهد الجديد - ويقصد فترة صدر الاسلام وضع قياسا جديدا للشعر يقامر به، بعد ان لم‏يكن هناك مقياس ثابت معروف للحكم عليه ويقدر على مقدار حظه منه في ايام الجاهليين، وكان ذلك المقياس الجديد هو الدين، ينظر الى الشعر على ضوء هديه، فما اتفقت فيه روح الشعر مع روح الدين فهو من الشعر في الذروة، وماخالفه فهو من كلام الغواة الذي يكون شرا على صاحبه وعلى الجميع‏». (17)
كما يستدل الدكتور بدوي طبانة من جهة اخرى على نهضة الشعر في صدرالاسلام، هو ظهور فن النقائض، فهو في رايه «فن وجد في صدرالاسلام، ولم‏تكن نقائض جرير والفرزدق هي بداية‏» (18) . والحقيقة ان فن النقائض يمكن ان نتبعه الى اصول ابعد من ذلك، اذا اردنا ان نعثر على ظروف نشاته الاولى، وقد فطن الى ذلك الدكتور صلاح‏الدين الهادي، الذي اشار في نشاة هذا الفن في العصر الجاهلي، مع ايراد الشواهد والادلة التي تثبت ذلك واشار الى «ان ذلك الفن طرا عليه تطور كلي في عهد النبوة على يد الشعراء المسلمين من حيث الغاية والاسلوب والمعاني والالفاظ‏». (19)
ويلخص الدكتور بدوي طبانة معالم النهضة الشعرية في دار الاسلام، بانها ارتبطت‏بما يمكن ان يسمى بازدهار النقد ذلك انه يرى ان الاسس الاولى «والمبادئ العامة للنقد الادبي قد اخذت في التميز والوضوح في صدر الاسلام بعد ان لم‏تكن هنالك اسس واضحة او معالم ثابتة يهتدي النقاد بهديها ويحكمون على الادب بالجودة او الرداءة في ضوئها». (20)
ونرى الدكتورة بنت الشاطئ تذهب الى النظرية التي تقول بازدهار الشعر في صدر الاسلام، وترى ان وجهة النظر المضادة التي تقول بتدهور او ضعف الشعر في صدر الاسلام، هي وجهة نظر تسربت من نقاد العصر العباسي، الذين قالوا:«ان الشعر زالت دولته بظهور الاسلام وفقد سلطانه على العرب الذين انصرفوا الى الدين الجديد والفتوح، ولانزال نردد اليوم ماقالوه ونتصور ان قوما امنوا بدين كتابه يعجز البيان، قد زهدوا في البيان وانصرفوا عنه، فلم‏يعد للكذب في دنياهم الجادة المناضلة مكان‏» (21) ، ونلاحظ ان الدكتورة عائشة ترى «التطور الهام الذي حدث للشعر العربي، هو ان الاسلام اراد لشاعر القبيلة، ان يكون شاعر الامة فلم‏يهدر بهذا ذاتية الشاعر، بل اراد توسيع افاقه منطلقا من قيود الاسرة والقبيلة‏». (22)
وهنالك محاولات للدكتورة تفند بها اراء القائلين «بان الاسلام لم‏يؤثر على حياة الشعر وادابه الا قليلا ومن هؤلاء، الدكتور شكري فيصل‏» (23) ، وكذلك، الدكتور شوقي ضيف، الذي يرى «ان الادب لم‏يتاثر بالاسلام الا قليلا». (24)
ونرى ان حديث الدكتورة عائشة على ازدهار الشعر في صدرالاسلام، مدعوما بالادلة القوية والمستفيضة والتي يغلب عليها الطابع اللفظي مثل قولها: «لو صح ان الحياة استغنت في تلك الفترة الثورية الجادة المؤمنة، عن الشعر والشعراء لكانت القاضية او يكون ذلك شاهدا على انه لامكانة للادب في مجتمع جاد ثائر مناضل‏» (25) ومثل قولها في موضع اخر «هل كان دم كعب يهدر لشعر قاله لو لو ان سلاح الشعر قد فك بالاسلام‏» (27) ; نلاحظ ان الادلة التي تميل اليها الدكتورة عائشة هي في الحقيقة ادلة غير ظافرة من جهة، لانها ادلة تعتبر سلبية تكتفي بهدم او محاولة هدم حجة الخصم، دون ان تظهر الجانب الايجابي للدليل اوالبرهان ومن هذا نرى لابد من تحطيم حجة الخصم باتمام البرهان حتى تتم الصولة الادبية بنجاح تام ولكن الجانب الذي يستحق وصفه بالجد في بحث الدكتورة عائشة، هو محاولتها الجادة والمثابرة في دراسة و تصنيف الشعراء المخصصين الذين كان الدارسون في حيرة من امرهم، فمنهم من عدهم اسلاميين خلصا لااثر فيهم لجاهلية، ومنهم من حسبهم جاهليين لم‏يؤثر الاسلام في شعرهم، والدكتورة عائشة ترى: «ان هذين الرايين كليهما يعزلان الادب عن الحياة‏» (28) ومن ثم فهي تقوم من جانبها برصد الارهاصات التي كانت تملا الجزيرة العربية قبيل المبعث وفي ظهور قيم جديدة (29) للشعر الجاهلي مثل شعر الاحناف والحكمة وتقسم الجيل الاسلامي الاول من الشعراء الى ثلاث فئات، على اساس زمن الخضرمة بين الجاهلية والاسلام، ونخلص من ذلك كله الى نتيجة اساسية مؤداها «انه لابد لنا ان نعترف بوجود اثر اسلامي في شعر الشعراء الذين لم‏يعتبروا من المخضرمين، كما نلاحظ وجود نزعة جاهلية في شعر الذين اسلموا منهم وخاضوا المعركة بلسانهم الى جانب الرسول‏». (30)
ونلاحظ بصفة عامة انه اذا كان الدكتور بدوي طبانة قدنظر الى المضمون فحسب في تقييمه لشعر صدر الاسلام، فان الدكتورة عائشة عبدالرحمن قد اغفلت هي الاخرى العناصر الفنية للقصيدة وجعلت همها الاول ارتباط الشعر بالحياة وتعبيره عنها، هذه هي بعض النماذج من اراء الفئة الاولى القائلين بان اثر الاسلام على الشعر كان اثرا ايجابيا.
وننتقل بذلك الى اراء الفئة الثانية، التي تثبت للاسلام اثره على الشعر ايضا وفي نظرها تعتبر ان ذلك الاثر الذي تركه الاسلام في الشعر كان سلبيا ومبررهم في ذلك «ان صوت الشعر والحاجة اليه قد خفت لقلة الاستماع اليه وكان يظهر فترة بعد فترة في صادق المدح والرشاد» (31) .
لكن ذلك هو حال الشعر في عهد النبوة، فان حاله بعدها اقل شانا واحط مكانة لذهاب المعارضة، ولشدة الخلفاء في تاديب الشعراء وانصراف هم العرب الى الفتوح، وان كان الدين قد بدا يفعل في النفوس ومظاهر الحضارة قد اخذت تؤثر في الاذهان، فان كل ذلك لم‏يؤثر في شعر المخضرمين الا بمقدار ضئيل، لايتعدى بعض الالفاظ الاسلامية (كالمعروف والمنكر والصلاة والزكاة والجنة والنار والمهاجرين والانصار...) كما يبدو ذلك لدى بعض الشعراء مثل كعب‏بن زهير والحطيئة معين‏بن اوس والنابغة الجعدي، ولذلك فان اصحاب هذا الراي يرون انه «من المبالغة جعل المخضرمين طبقة ممتازة، فليس شعرهم الا استمرار للمذهب الجاهلي الذي لم‏يتاثر بالاسلام الا تاثرا عرضيا (سلبيا) كضعف الاسلوب في شعر حسان، او قلة الانتاج في قريحة لبيد، او كثرته عند الحطيئة والنابغة الجعدي مثلا، وعلى هذا الاساس فان الشعر العربي ظل في الجاهلية والاسلام واحدا في مظهره وجوهره ونوعه حتى اواخر عهد بني امية‏» (32) .
ولعل مفكري هذه الفئة - الذين يستبعدون الاثر الايجابي للاسلام على الشعر - يمضون في هذا الراي الى نهايته، فيرون انه «من العبث ان تتكلف البحث العقيم في القرن الاول عن مذهب شعري جديد، يصح ان يكون اساسا لادب عربي جديد، وحتى مذهب عمربن ابي ربيعة في الغزل، لايختلف عندهم عن مذهب امرئ القيس الا قليلا». (33)
ونلاحظ متابعة الدكتور عبدالقادر القط هذا الراي في كتابه في الشعر الاسلامي والاموي) فانه وان كان يخلص الى ان القران الكريم لم‏يصدر حكما بعينه على الشعر، ولم‏يتخذ منه موقفا خاصا، وانما نفى عن النبي مرة بعد اخرى، ان يكون شاعرا من الشعراء وان تكون رسالته كرسالتهم، فانه - على الرغم من ذلك - يرى ان هذا الموقف الاسلامي من الشعر لم‏يحل بينه وبين الضعف الفني الذي يغلب على شعر هذه الفترة الذي فقد في معظمه، وبخاصة الشعر السياسي، مافي العصر الجاهلي من خيال حي، واقتدار لغوي والتصاق بالطبيعة (34) ويعلل الدكتور القط هذا الضعف بصعوبة تكيف الشعراء مع القيم الجديدة الروحية والاجتماعية، وماتجعله من مظاهر التغيير في الاخلاق والسلوك، فلم‏يكن من اليسير على شاعر قضى الجانب الاكبر من حياته في الجاهلية بانه يوجد لنفسه اسلوبا من الشعر يحسن التعبير عن تلك القيم والقضايا الجديدة، ويحتفظ في الوقت نفسه بتلك الخصائص الفنية التي نمت وتطورت في ظل مجتمع مختلف في قيمه وقضاياه (35) ويتجلى ذلك بصفة خاصة في انتاج شعراء المسلمين الذين اتصلوا بالصراع بين المسلمين والمعارضين للدين الجديد، على عكس الشعراءالاخرين الذين كانوا اقل انغماسا في تلك الحروب الكلامية، والذين مضوا يقولون الشعر على طريقته الجاهلية‏». (36)
ومن كل ذلك يخلص الدكتور القط الى ان «الضرورة العامة للشعر في صدر الاسلام تقوم على حقيقة حضارية معروفة، هي ان هناك بالضرورة تداخلا بين فترات التاريخ الحاسمة، وانه لايمكن ان يكون هناك حد فاصل بين فترة والتي تليها وبخاصة حين يتصل الامر بمقومات نفسية بعيدة الغور في نفوس اصحابها، او بقيم فنية اصبحت تقاليد موروثة لايمكن الخلاص منها فجاة، او الاهتداء الى غيرها من قيم جديدة، لذلك كان لابد ان يظل هناك امتداد ما للشعر الجاهلي في شعر ذلك العصر، على اختلاف في المظهر والدرجة‏». (37)
ومن الباحثين الذين اشادوا بهذه النظرية الدكتور عبدالعزيز الكفراوي الذي يتفحص عن الاثار التي تركها الاسلام جميعا او بعضها في الشعر العربي، ثم يقرر «اننا ننظر هنا وهناك فلانرى شيئا، اللهم الا مفردات او شبه مفردات اقتبسها من القران الكريم حسان واخوانه من شعراء الرسول في ردودهم على شعراء قريش، وهي ردود لاتكاد تختلف عن الهجاء الجاهلي في قليل ولاكثير، فاين روح الاسلام وتسامحه؟ واين صرخاته المدوية في سبيل العدل والمساواة؟ الم‏ياخذ كل ذلك طريقه الى شعراء الصدر الاول للاسلام؟». (38)
كل هذه الاسئلة التي يثيرها الدكتور الكفراوي لاتجد لها من اجابة الا بالسلب، وفي هذا دلالة على مواقفه الواضحة من ان الشعر في صدر الاسلام قد تدهور مستواه، ومثل هذا الراي لايدل فقط على ان الاسلام لم‏يترك اي اثر في الشعر في هذه الفترة، بل يتعدى ذلك الى اثبات حقيقة ان الاسلام تسبب في اضعاف مستوى الشعر في هذه الفترة التي نحن بصددها، وبرر الدكتور الكفراوي ذلك بقوله: «لعل روح الدين الجديد - الذي ينهى عن التعظيم بالاباء ويحرم الخمر، وينفر من التعرض على احساب الناس بالهجاء واعراضهم بالتشبيب -... كان سببا في ضعف الشعر العربي وضعف الدوافع اليه والا فماذا يقول الشعراء في مدائحهم وقد صار ابوهريرة وابن‏مسعود وبلال وغيرهم المغمورون اكرم على الله وعلى الناس - بفضل تقواهم - من صناديد قريش و قادة العرب ثم في اي شي‏ء يخوض الشعراء، وقد حرمت اهم الموضوعات التي تثير الشعور وتعين عليه، من شرب وغزل وهجاء ونحوه، واذا كان الحطيئة قد زار السجن بسبب الهجاء، فان ابا محجن الثقفي قد زاره ايضا في سبيل عزل النعمان‏بن عدي عامل عمر على البصرة بابيات قالها فيه‏». (39) ودليل الدكتور الكفراوي على الضعف الذي لحق بالشعر بسبب الاسلام، يستمده من موقف الرسول من الشعراء وقد كان هذا الموقف رد فعل لموقفهم منه وهجائهم له باقذع الهجاء، فاعلنها حربا عليهم لاهوادة فيها ولامهادنة «فمنهم من قتل ومنهم من القى السلاح ورمى بنفسه بين قدمي الرسول عائدا تائبا» (40) .
ومضى القران الكريم يضع لهم تحديدا لمسيرتهم الشعرية، فردع الشعراء في اكثر من موضع، وقد رسم للشعر دستورا لايتعداه، ولايتخطاه في قوله: «والشعراء يتبعهم الغاوون‏» (41) . وظاهرالاية الكريمة كما يرى الدكتور الكفراوي ان جميع اغراض الشعر في العصر الجاهلي لاتوافق الركب الاسلامي الجديد.
وقد التزم الصحابة بتلك الاية الكريمة حرفيا، فاقسم لبيد الله يقول شعرا، وقصر الشعراء الباقون مواهبهم على خدمة الدعوة الاسلامية برد هجمات قريش، وغيرها من المشركين، حتى اذا وضعت الحرب الادبية بين قريش والرسول اوزارها، لاذوا بالصمت.
من هذا، يظهر انكماش انفاس الشعر في مكة والمدينة وضعفت قوائم عرشه في باقي الجزيرة العربية (42) الا الموافق والمساند للفكر الادبي الاسلامي ولم‏تقنع باحث الادب هذه الادلة بل ولاالقوي منها لسهولة الرد عليها، والحق ان الادلة ليست مقنعة تماما، ويظهر ان موقف الرسول من الشعر والشعراء لايمكن ان نحمله على انه موقف العداء فقد كان لايعجز عن ترديد هذا البيت من الرجز في احدى غزواته:
انا النبي لاكذب انا ابن عبد المطلب (43)
وكما يحدثنا التاريخ الاسلامي وامهات الكتب الادبية ان للرسول الاكرم مواقف مشرفة اتجاه المجتمع الجاهلي وبالخصوص الشعراء كما خلع بردته على كعب‏بن زهير جائزة له على قصيدته التي استهلها بقوله:
بانت‏سعاد فقلبي اليوم متبول متيم اثرها لم‏يفد مكبول (44)
وهو ايضا الذي فك اسر ابي عزة الجمحي الشاعر المشرك، الذي اسر يوم بدر، بشرط ان لايعين عليه بشعره (45) وان كان الرسول قد امر بقتل كعب‏بن اشرف الشاعر اليهودي، فلم‏يكن سبب ذلك انه بكى‏قتلى بدر، بكاهم كثير من الشعراء، ولم‏يامر رسول الله بقتل واحد منهم مثل امية‏بن ابي الصلت، فانه بكاهم وحرض قريشا على ان تثار من المسلمين ليوم بدر وكل مافعله النبي اشتهر بانه «كان كثير الاستشهاد بشعر امية‏بن ابي الصلت، لما فيه من معان حكيمة ونظرات دينية صائبة‏» (46) وقال عن شعره: «ان كاد امية ليسلم‏» (47) ، «وقصص الرسول مع كل من قيس‏بن الخطيم، والعلاءبن الحصين، والخنساء وقتيلة بنت النضربن الحارث، وعمربن سالم، ووغدبن تميم... الى اخره‏» (48) كل ذلك يثبت ان موقف الرسول لم‏يكن رافضا للشعر عامة ومعرضا عن الشعراء اجمعين «فهو يقبل على ماحسن ووافق من الاشعار الجاهلية مالم‏يتضمن ماينافي روح الاسلام وتعاليمه وادابه‏» (49) فقد روى عن النابغة الجعدي انه وفد على الرسول فانشده شعره الذي يقول فيه:
بلغنا السماء مجدا وسؤددا وانا لنبغي فوق ذلك مظهرا
فقال له النبي: الى اين اباليلى؟ فقال: الى الجنة، فقال النبي: ان شاء الله.
فلما انتهى الى قوله:
ولاخير في حلم اذا لم‏تكن بوادر تحمى صفوة ان يكدرا
«قال له النبي: لايفض الله فاك فعاش مائة وثلاثين عاما» (50) وفي ذلك دلالة واضحة على تقبل الرسول للشعر وحسن استماعه له مالم‏يتعارض مع القيم الدينية.
والادلة مستفيضة في كتب الادب على ان الرسول الكريم كان يعرف للشعر قيمته وتاثيره «فهو كثيرا ماكان يستنشد الصحابة الشعر» (51) كما انه كان يسمع الغزل ولاينكره من حاد يحدو.
طاف الخيالان فهاجا سقما خيال لبنى وخيال تكتما
قامت تريك خشية ان تصرما ساقا بخندلة وكعبا ادوما (52)
بل اكثر من ذلك، فانه - عليه الصلاة والسلام - كان قادرا على ان ينظم بعض الابيات ويرتجزها حينما تدعو الى ذلك ضرورة ومن ذلك ان ابا سفيان كان ينادي في اثناء معركة احد:
اعل هبل... اعل هبل.
فياتيه جواب الرسول بصوت عمربن الخطاب: الله اعلى واجل.
فيقول ابوسفيان: لنا العز، ولاعزى لكم.
فيامر الرسول ان يجاب:
«الله مولانا ولامولى لكم‏» (53) .
وعند دخول عساكر المسلمين مكة المكرمة اخذ الراية سعدبن عبادة الانصاري ونادى‏مرتجزا:
«اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة‏».
فامر النبي ان ياخذ الراية علي‏بن ابي طالب وينادي:
«اليوم يوم المرحمة، اليوم تصان الحرمة‏» (54) .
اما فيما يتعلق بما ذكره الدكتور الكفراوي من موقف القران الكريم واثره على الشعر، «فان الاية الكريمة التي ذكرها لاتقصد الى تهجين الشعر بعامة وذم الشعراء اجمعين، فالمراد بالشعراء المذمومين في الاية، الشعراء المشركون الذين يتبعهم غواة الناس وسفهاؤهم‏» (55) .
ولعل مثل هذا الفهم للاية الكريمة يستقيم مع ماذهبت اليه الدكتورة عائشة عبدالرحمن «من ان الرسول لو فهم من هذه الاية مثلما فهمه اولئك النقاد الذين يتخذونها دليلا على معاداة الاسلام للشعر، لما لجا الى تشجيع الشعراء وندبه لهم لنصرته‏» (56) وهو فهم قريب لما ذهب اليه الدكتور شوقي ضيف،الذي يرى «ان القران الكريم انما يهاجم الشعراء الوثنيين، اما الذين اتبعوا هديه وامنوا برسوله فانه يستثنيهم، بل ان الرسول ليدفعهم دفعا الى نصرته، اذ يقول لحسان‏بن ثابت: «اهج قريشا فوالله لهجاؤك عليهم اشد من وقع السهام في غلس الظلام; اهجهم ومعك جبريل روح القدس‏»، ومن البديهي ان حسانا عندما اعتنق الاسلام كدين وترك الجاهلية فلابد ان يلبس العقيدة الجديدة، ويعتنقها بكل نواياها بذلك هو يصورها ويتمثل بها بقدر ماتتجسد في نفسه (57) .
والدكتور شوقي ضيف هو احد الذين يرون «ان تاثير الاسلام على الشعر يتمثل في تدهور وضعف ذلك الشعر، او على الاقل تسبب في «كلاسيكية‏» وتجمده، فهو مثلا يورد «كلاسيكية‏» حسان‏بن ثابت في اشعاره الاسلامية وكذلك «كلاسيكية‏» كعب‏بن مالك، الى ان المعاني الجاهلية القديمة كانت متمكنة من نفسيهما وقد وجه الرسول نفسه حسانا هذه الوجهة، اذ قال له: «اذهب الى ابي بكر فليحدثك حديث القوم وايامهم واحسابهم، ثم اهجهم وجبريل معك‏» (58) وقد ادى ذلك كما يرى الدكتور شوقي ضيف الى انه «لم‏يحدث انقلاب في هجاء المسلمين للمشركين بتاثير الاسلام، الا في حدود ضعيفة ويتضح ذلك بالمقارنة بين هجائهم ومثالية القران الكريم في الهجاء، فهو لايقذف في الاعراض ولايتوعد بغارة تسبى فيها الاطفال والنساء وتسيل الدماء، وانما يتوعد بعذاب النار». (59)
والمفهوم من الفكر الجديد جاء مصلحا للمجتمع الجاهلي ومغيرا لمفاهيمه البالية، مفعما بالاخلاق العالية والمثل القيمة التي فيها انقاذ للبشرية من الظلمات الى النور، فلايمكن لمثل هذه القيم ان تجدد محن الجاهلية وايامها البالية وعنعناتها القبلية بل تمحو كل ذلك بفتح سجل جديد لهذا المجتمع ولغيره.
ويبدو من هذه الاراء ان الدكتور شوقي ضيف اميل في كثير من الاحيان الى التقليل من اثر الاسلام في الشعر في هذه الفترة، فهو يلاحظ في استقرائه لفن الهجاء «ان هجاء حسان‏بن ثابت وشعراء الرسول لقريش وشعرائها ظل غالبا في حدود الصورة الجاهلية القديمة الا خيوطا اسلامية متناثرة ولكنها لم‏تؤثر في النسيج العام تاثيرا واسعا» (60) ، وهذا امر يلاحظه الدكتور شوقي ضيف في فن المديح خاصة في بردة كعب‏بن زهير (61) «وعلى الرغم من ان الاسلام عمل على ضعف الشعر، فاننا يمكن ان نستشف ذلك من بين السطور بطريقة غير مباشرة، وخاصة عندما يؤكد على التهوين والتقليل من اثر الاسلام على الشعراء، وعندما يقسمهم الى شعراء لم‏يتاثروا بالاسلام كالحطيئة‏» (62) ، «والى شعراء بهم خيوط اسلامية كالشماخ‏بن ضرار الذبياني، ولبيدبن ربيعة والنابغة الجعدي، وسويدبن كاهل وعبدة‏بن الطيب‏» (63) وعلى كل حال فان تصنيف اراء الدكتور شوقي ضيف ضمن اراء الفئة القائلة بان الاسلام عمل على اضعاف الشعر في الفترة المبكرة، هذا التصنيف ينطوي على مغامرة ينبغي التحرز منها; ذلك لان الدكتور شوقي ضيف يعود في مؤلف اخر فيثبت للاسلام اثرا قويا على الشعر، ويجعله سببا من اسباب ازدهاره الى درجة يقترب كثيرا من التناقض والتردد بين الموقفين، مثلما نلاحظ في تاكيده على: «ان الشعر لم‏يتوقف ولم‏يتخلف في صدر الاسلام‏» (64) ، «بل انه ظل مزدهرا دون ان يعترضه ضعف او توقف‏» (65) ، بدليل انه لايوجد في العصر حدث كبير الا وكان الشعر يواكبه ويرافقه بدءا من جهاد الرسول لنشرالاسلام في الجزيرة العربية، وجهاد ابي بكر في محاربة اهل الردة الى احداث الفتوح الاسلامية واحداث فتنة عثمان وماتلاها من حروب وفتن، والحروب التي حدثت في خلافة علي اميرالمؤمنين كالجمل وصفين والنهروان وغيرها من الاحداث، خلقت‏سوقا جديدا للشعر في هذه المحن، لعل هذه الاحداث نجدها على حد تعبير الدكتور شوقي ضيف: «ماثلة على السنة الشعراء الذين استضاءوا في تصويرها الى حد كبير بالاسلام وهديه الكريم‏» (66) ، ولم‏تقف حماسة الدكتور شوقي ضيف لفكرة ازدهار الشعر في صدر الاسلام عند هذا الحد، بل نراه يتجاوز ذلك الى تنفيذ اراء القائلين بغير ذلك من المفكرين، على نحو مافعل مع ابن خلدون في مقدمته التي نوه فيها الى «انصراف العرب عن الشعر وانشغالهم عنه في اول الاسلام‏» (67) ، ولاشك ان مثل هذه الاراء لاتتفق ولاتتسق مع ماجاء في كتاب التطور والتجديد في الشعر الاموي، الذي اشرنا اليه انفا، وفي مقابل ذلك ظهرت بعض القبائل عند اعلان الاسلام انظموا اليه بدون اي ضغط او تكليف وذابوا في بودقة الفكر الاسلامي الجديد، ولعل القائلين بمثل هذه الاراء يستندون في ارائهم تلك الى حقيقة نلمسها كثيرا في بحوث وكتابات دارسي الحضارة الاسلامية، ويؤدي هذه الحقيقة «ان انتقال العرب من الحياة الجاهلية بجميع مقاوماتها الى حريات الاسلام بمقوماتها الجديدة لم‏يكن انتقالا سهلا حتى في عهد الرسول نفسه‏» (68) ، «فها هي ذي قبيلة بكر مثلا تطلب من الرسول ان يمهلها حتى تغير على قبيلة تميم ثم تعتنق الاسلام، وهذا يصور بوضوح تمسك العرب في عاداتهم القديمة وانهم لم‏يتحولوا عنها الى شعور انساني عام الا بعد جهاد طويل عنيف‏» (69) .


تصف


شكرا لتعليقك