pregnancy

الأستاذ / عبد الرحمن معوض - معلم خبير لغة عربية وتربية إسلامية - السنبلاوين - دقهلية


|جَدَلُ الخطاب والمعنى (قراءة تأويلية في بائية بشار بن برد)

إذن كان بشار مأخوذاً بالذوق الفني الذي كان يُقبل على التراث القديم، خصوصاً أنّ دولة بني أمية كانت عربية أعرابية، أي أنّها لا تحتفل بتراث مثلما تحفل بتراث العرب الأقدمين ومن الطبيعي أن يبقى النموذج الجاهلي في الفن موضع احتذاء لكثير من الشعراء في ذلك العصر بمن فيهم بشار، وهذا الضرب من التبعية للقديم لا يلغي الأصالة والتفرد، فهو وإن كان يتعبد في محراب الفن القديم، إلا أنه كان ينزع إلى التعبير عن ذاته، مدركاً بذلك أنّ ثمة منطقاً للجديد يفرض نفسه ليأخذ مكانه بجانب القديم على الدوام، وقد انتبه النقاد إلى هذه الناحية فقالوا أنّ بشاراً أول المحدثين، والتحديث في الواقع لم يأت بمجرد انتقال السلطة من الأمويين إلى العباسيين سنة 132 هـ، ومن الصعوبة بمكان أن نفهم أسلوب بشار في الشعر على أنه صورة من صور التحول المباغت الذي حدث بين ليلة وضحاها، لينتقل فجأة من كونه آخر القدماء إلى أول المحدثين، فهذا التحول تأسس مع ظهور شعره، إذ الوعي بقيمة الجديد دعاه إلى تلوين شعره بألوان البديع، وهذه صفة عامة في شعره، والقصيدة التي بين أيدينا تحمل بذور التجديد مع أنها قيلت في العهد الأموي خصوصاً في قوله:

فلما بدا وجهُ الزِّما ع وراعه

من الليل وجه يمم الماءَ قاربه

فأراد القارب هنا حمار الوحش، فأظهره في مقام الإضمار تفننا وتورية بالقارب الذي هو ضرب من الفلك، وترشيح التورية هنا تمثل بقوله: "يمم الماء" (24).

ومن ضروب عنايته بألوان البيان في هذه القصيدة قوله أيضاً:

إذا الملك الجبار صعر خده

مشينا إليه بالسيوف نعاتبه

فقال الشارح: "مشينا إليه بالسيوف نعاتبه" لون جميل من ألوان البيان العربي، وهذا القول ليس تشبيهاً أو استعارة، وإنما هو تنويع (25).

والسؤال الثاني ما العلاقة المنطقية بين موضوع الصداقة وموضوع الرحلة من جهة وبينهما وبين موضوع المديح من جهة أخرى؟ وإذا كانت هنالك علاقات فنية تكلم عليها الدارسون والنقاد مثل الوحدة الشعورية ووحدة المتكلم وغيرها، فإن هذه العلاقات ليست بذات شأن يذكر في مجال تحليل الخطاب؛ وتتابع الأجزاء، وتوالي الأفكار.

إنّ الفوارق بين الموضوعات الفنية لا يحكمها منطق العقل في كثير من الأحيان؛ ذلك لأن الفن محكوم بالمحاكاة وقائم على التشكيل، بمعنى أنّ طبيعته الذاتية تحكم منطقه، وهو منطق خاص على أية حال، ومع ذلك فإن البحث عن العلاقة المنطقية بين أجزاء القصيدة الواحدة أمر مشروع، إذ من الصعوبة أن يتقبل القارئ جملة من الموضوعات في قالب واحد في عصرنا عصر التشظي المعرفي، والتخصص الدقيق، بعدما نجمت عن المعرفة التقنية اليوم نتائج مذهلة.

إذا كان النّص محكوماً بظروف عصره ووعي صاحبه، بمعنى أنّ بشاراً وغيره من المتقدمين الذين أخرجوا نتاجاتهم هذا الإخراج المتنوع من حيث موضوعاته، بمعزل عن أفكارنا الحالية إزاء ضرورة توافر عنصر الوحدة والتماسك في القصيدة، فإننا نكتفي بالتفتيش هنا عن تلك العلاقة، وفي أضعف الأحوال نثير أسئلة حول هذه القضية أو تلك.

إنّ القصيدة نتاج وعي سابق، غير أنّ ذلك الوعي أمسى جزءاً من تراثنا، وإذا كانت في صورتها الظاهرة مشتتة ممزقة لا تقيم وزناً لعلاقات التسلسل بين الأجزاء والتتابع في المعاني، والوحدة في الموضوعات، فهذا يعني بكلّ تأكيد أنّ شخصيتنا التاريخية لا تبعد عن الصورة نفسها التي عليها القصيدة، وهذا الاعتبار بميزان العقل غير صحيح على الإطلاق على الإطلاق بدليل أنّ الشخصية العربية ذات ثقافة رفيعة وقد أسهمت فعلياً في الحضارة الإنسانية على نحو لا يدع مجالاً للشك، إذن كيف تكون القصيدة مشتتة في موضوعاتها، والشخصية التاريخية للعرب فاعلة متماسكة ومنتجة؟ هل يعني ذلك أنّ الأطروحة التي تقول: أنّ القصيدة جزء من شخصيتنا ليست صحيحة؟

من الواضح أنّ القصيدة التي يعرضها بشار هنا لها منطقها الذي ينبغي أن يُفهم عبر سياقه التاريخي، إذ القصيدة العربية في عصر بشار وبعده لم تر في التنوع مشكلة تعيق الفهم أو تحجب التواصل مع الآخر، لأنّ التنوع كما ذكر الجاحظ في فاتحة كتابه الحيوان لـه وظيفة إمتاعية إضافة لوظيفته التثقيفية، فلهذا خرج في كتابه المذكور آنفاً بالسامع من باب إلى باب لدفع السأم والملل عنه (26)، ولا تبعد غاية التنوع في القصيدة العربية عن هاتين الوظيفتين: الامتاعية والتثقيفية، إذ أن الجانب المعرفي في تلك الأعصر يظل محدوداً قياساً بعصرنا الحاضر، من أجل ذلك كان التنوع ضرورة تستلزمه طبيعة العصر، وتفترضه الحالة الثقافية للمجتمع، كما كانت الأذواق تستسيغ هذا النوع من الخطاب، وإن كان عصرنا الحاضر يرجح مبدأ الوحدة في الموضوعات التي تخاطب المتلقي، فإن ذلك يقتضي تفهم مسألة تحول الذوق الفني اليوم، وتفهّم الحالة المعرفية التي غدت على غاية من الاتساع فدعا ذلك إلى التخصص والوحدة ليس على مستوى العلم فحسب، وإنما على مستوى الثقافة والفكر والأدب، وعلى كلّ حال فإنّ كان تحليل الخطاب في قصيدة بشار لا يفضي إلى الوحدة، بمعنى أنّ وحدة الموضوع ليست متحققة، إلا أنه يشي بعلاقات قوية بين أجزاء القصيدة على النحو الذي سنبرزه في الصفحات الآتية.
3 ـ 4: لعل أهمّ محاولة في تحليل بنية الخطاب تلك التي قام بها جاكبسون حين حصر وظائف اللغة بمجالات الخطاب، إذ ربط الوظيفة الإفهامية للّغة بالمتكلم، والوظيفة الإقناعية بالمخاطب، والوظيفة الشعرية بالرسالة، ثم أضاف ثلاثة عناصر أخرى وهي الشيفرة التي تشير إلى اللّغة الشارحة (اللّغة التي يستخدمها المتكلم عربية أو إنكليزية..) والسياق وقناة الاتصال هما حاملان للوظيفتين التعاطفية والمرجعية(27).

يحيل الخطاب في الجزء الأول من النص الخاص بموضوع الصداقة أو العتاب كما سماه النقاد القدامى إلى الغيبة، مما يرجح مبدأ الإخبار فيه، وهذا واضح في هيمنة ضمير الغائب على النص كالآتي:

ـ في ب1: (الهاء في وده، والضمير في ازور، والهاء في صاحبه، والهاء في به، والضمير في يزال، والهاء في يعاتبه).

ـ في ب2: (الهاء في يعاتبه).

ـ في ب3: (الهاء في طبائبه).

ـ في ب4: (الهاء في به، الهاء في يطالبه).

ـ في ب5: (الهاء في ركائبه).

ـ في ب6: (الهاء في له، والهاء في مذاهبه).

ـ في ب 7: (الهاء في ربته، والهاء في عاتبته، والهاء في جانبه).

ـ في ب8: (الهاء في تعاتبه).

ـ في ب9: (الهاء في فإنه، والهاء في مجانبه).

ـ في ب10: (الهاء في مشاربه).

          ومع وجود إشارات في النص دالة على توجيه الخطاب للحاضر الشاهد أحياناً كقوله في الأبيات:

 ـ في ب5: (كاف الخطاب في أخوك).

ـ في ب6: (الضمير المستتر في تكن).

ـ في ب 7: (كاف الخطاب في أخوك).

ـ في ب8: (الضمير المتصل "التاء" في كنتَ).

ـ في ب9: (الضمير المستتر في عش وفي صل).

ـ في ب10: (ضمير الفصل أنت، والضمير المتصل في ظمئتَ).

مما يرجح الوظيفة الإقناعية للغة التي يفيدها خطاب الشاهد، فإنّنا لا نجد أثراً لضمير المتكلم، لهذا تختفي في هذا الجزء من القصيدة مؤشرات اللغة الانفعالية.

وإذا وضعنا هذه الملاحظة بإزاء ظاهرة الفعلية التي تشيع في النص، أعني اعتماد بشار في هذا الجزء من قصيدة على الصيغ الفعلية خصوصاً في قوله:

ـ ب1: (جفا ـ أزور ـ مل ـ أزرى ـ يزال ـ يعاتبه).

ـ ب3: (شفى ـ تلقى ـ كان ـ يلقى).

ـ ب4: (أقصر ـ يميل ـ يطالب).

ـ ب7: (ربته ـ أربت ـ عاتبت ـ لان).

ـ ب8: (كنت ـ تلق ـ تعاتبه).

نجد أنّ النّص يسعى إلى التسارع والحركة، ويجنح إلى التوثب، فبدأ بست صيغ فعلية في البيت الأول ثم أخذت الأفعال تترى في سائر الأبيات ولكن بنسبة أقل،

ومع ذلك بقي النص متوثباً متسارعاً إلى حد كبير، فالاعتماد بهذا التركيز على الصيغ الفعلية يحرك الخطاب، ليغدو النص كله صورة زمانية تحوّل المعاني إلى أحداث متسارعة، لأنّ الفعل في السياق هو مبعث الحركة، ذلك أنه عند النحاة زمنٌ مرتبط بحدث، في حين أنّ الاسم مجرد حدث معزول عن الزمان، لهذا كان الفعل يعدل الحركة والتوثب، ويفيد التغير والإخبار، الاسم يحيل إلى السكونية ويفضي إلى الوصف والتأمل، أمّا الأدوات والضمائر فهي وإن كانت بمعزل عن الزمان والحدث إلا أنها توجّه الخطاب وتخصصه، كما هو الحال في هذا النص، حيث أدت تلك الضمائر دوراً مهماً يؤازر الصيغ الفعلية لجعل الخطاب ذي طابع إخباري، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ بشاراً اتخذ من آلية الخطاب الأدبي هنا قناعاً فنياً، وهذا ما يفسر لنا غياب ضمير المتكلم في هذا الجزء ليوهمنا بأنّ المضمون الأخلاقي أو الاجتماعي الذي ينقله إلينا بمعزل عن ذاته، والطريف في الأمر أنه ساق علاقته بعبدة، المرأة التي تغزل بها في قصائد عدة في إطار الخطاب الأدبي الذي يروي عن الغائب (28):

شفى النفس ما تلقى بعبده عينه
وما كان يلقى قلبه وطبائبه

فالذي يتلقى هذا القول يحسب أنّ الضمير في ( عينه- قلبه) عائد على غير المتكلم، والواقع أنه يعود على بشار نفسه الذي أنشأ القول، ولكنه على عادة الشعراء جرّد من نفسه شخصاً آخر وجه إليه الخطاب، أو بمعنى آخر وصف حاله، وذلك من مقتضيات الخطاب في ذا النص حتى يتسق والمقصد.

بني الخطاب إذن معتمداً على الفعلية، وقد بدت فيه علامات خاصة بأسلوب منشئه، وهذا إنما تظهره الموازنة بين النص المدروس ونصوص أخرى لشعراء آخرين في هذا الموضوع، موضوع الإعراض عن اللوم وتجنب العتاب أعني، فبشار يسوق الكلام على جهة الإخبار، ويعتمد على الصيغ الفعلية الماضية ثم المضارعة وفي حالات نادرة يستخدم أفعال الأمر، فالفعل الماضي كان في الصدارة وله دلالات مهمة على اعتباره قد جاء في مفتتح النص، وهذه سمة أخرى تدل على الجانب الإخباري في النص، في حين اعتمد شاعر آخر كأبي نواس في معالجته موضوع العتاب بصيغة الأمر خصوصاً في قوله (29):

دع عنك لومي فإنّ اللّوم اغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

وشاعر آخر كابن زريق يعتمد على النهي في قوله: (30)

لا تعذليه فإنّ العذل يولعه

قد قلتِ حقاً ولكن ليس يسمعه

وهذان الخطابان للإقناع، وفيهما مباشرة إذ يضع الشاعر المخاطب في قلب الموضوع، لتكون هنالك مقابلة بين المتحدث والمخاطب، وهذا أسلوب يحمل على النفور أحياناً لأنه قائم على منطق الأمر والطلب والنهي، أما الإخبار فينطوي على إشارة وتلميح يمكن أن يتقبله المرء دون أدنى حرج.

4 ـ 4: في الجزء الثاني من القصيدة يعالج بشار موضوع الرحلة، وهو موضوع كما ذكرت آنفاً ترسّب في نفسه من خلال مقارعته أشعار سابقيه وأساليبهم في النظم، وكان من دواعي التقليد أن يحافظ بشار محافظة صارمة على الإطار المنهجي للقصيدة الجاهلية، وخصوصاً في موضوع الرحلة، لسبب وجيه هو أنّ الرحلة كانت من مقتضيات الحياة في البادية، وبشار لم تعد له صلة بتلك الحياة إلا من الناحية الثقافية، على اعتبار الإرث الشعري الجاهلي يمثل لبشار وغيره من الشعراء المتأخرين تراثاً، لهذا نجده هنا كالجاهليين منتقلاً بين جزء وآخر في القصيدة دونما تمهيد، حيث توسل بـ (واو رب) في (ب11) لينتقل من موضوع العتاب والصداقة إلى إعلان نبأ رحلته في الصحراء، فقال (وليلٍ) على جهة التنكير، وهذه الصيغة شعرية في الأساس؛ لأنّها وإن أشارت إلى زمن الرحلة على اعتباره قد خرج إلى الصحراء في طريقه إلى الممدوح ليلاً دون النهار، فإن هذه الصيغة لا يُراد بها تعيين زمن الرحلة، كما هو الشأن في الجزء الثالث في هذه القصيدة، بقدر إعلام السامع بالمشقة التي كابدها عندما خرج ليلاً لكثرة ما يلاقيه المرء من الأهوال في ترحاله حين يجوب البيداء في الليل البهيم.

ثم يلتفت بشار إلى جمله في (ب 12) وكان قد حرمه النوم مثلما حرم نفسه ليمعن في وصف قوته في (ب 13)، ثم يشبهه على عادة الجاهليين بحمار الوحش في (ب 16)، وبعد ذلك يدع المشبه ويسترسل في وصف المشبه به، مستغرقاً في وصفه سائر أبيات الجزء الثاني من القصيدة.

إنّ خطاب بشار في هذا الجزء ذو طابع إخباري أيضاً، فهو يروي لنا قصة حمار الوحش كما كان يرويها السابقون، فإذا بالحمار بين أتنة يرعى النبت في الهجير، حتى إذا ما حلّ الظلام وباغت الظمأ الأتن رنت إلى الماء، فانتظمت وراء مسحلها إلى المورد، غير أن بشاراً لا ينهي القصة كما كان ينهيها السابقون، فيُظهر الصياد متربصاً بالحمر يرقبها، وقد أحس حمار الوحش به، فتراءت له المنية، وأنه هالك لا محالة، وهذا ما يحدث بالفعل حين يوجه القانص سهمه ليخترق صدر حمار الوحش فيقع مضرجاً بدمائه بعد أن لقي أحجاراً أسندته واحتضنته.

واللافت للنظر في هذه القصة أن بشاراً قد رسم لحمار الوحش نهاية موجعة، عندما جعله هدفاً سهلاً لسهم الصائد، في حين كانت القصة في أشعار الجاهليين تنتهي بنجاة حمار الوحش، يقول د. رومية: "والنتيجة في قصائد الرحلة هي هي، لا يتغير: يخطئ السهم الحيوان، ويمر قريباً منه فتجفل الحمر وتلوذ بالفرار، حتى ينالها الأمن وتعلوها السكينة، فيقف الحمار على رابية يتنفس ريح الحرية ثم يرسل صوته معشراً فرحاً وابتهاجاً معلناً عودة الأمور إلى مجاريها" (31). والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا اختار بشار هذا المصير الموجع للحمار، فخالف الشعراء الجاهليين، بعد أن احتذى على أساليبهم في موضوع الرحلة، مثلما اعتمد على طرائقهم في بناء قصيدته كما قلنا؟

إنّ التقليد في الفن لا يلغي التفرد، فإذا كان الشاعر مأخوذاً باتباع متقدميه في الأساليب والصيغ والموضوعات، فهذا لا يعني أنه لا يستطيع التعبير عن ذاته وعن تجربته في إطار القديم، والشاهد على ذلك هنا في هذا النص، إذ نجد بشاراً يعتمد على سابقيه في بعض المعاني والأغراض، وفي الوقت نفسه ينفرد عنهم بما يدل على خصوصيته، ولهذا اختار نهاية لقصته تخالف ما انتهت إليه قصص سابقيه في هذا الموضوع، وربما اختار هذه النهاية ليتناسب هذا الجزء من القصيدة مع الجزء الأخير الخاص بالمديح الذي تناول فيه مروان بن محمد، وإذا ما تأملنا الأحداث التي عاشها الممدوح تبين لنا أنّ حياته كانت محفوفة بالأخطار لكثرة المتربصين به والخارجين على سلطانه، ومن الطبيعي أن ينقل الشاعر صدى إحساس ينطوي على تشاؤمه عما ستسفر عنه الفتن والاضطرابات والحروب التي كان يخوضها ممدوحه، وكأنه استشف أنّ ممدوحه سيؤول إلى ما انتهت إليه قصة حمار الوحش، وهنا تكمن الرؤية التي أكدتها الأيام القابلة حيث سقط مروان بن محمد في إحدى المعارك في مصر سنة 132هـ.

5 ـ 4: لقد خصص بشار موضوع القصيدة لمدح قيس عيلان ومروان بن محمد، وقيس عيلان كما تذكر المصادر اسم جد قبيلة مضرية، فقيل إن قيساً هو ابن عيلان بن مضر بن نزار، وكان بشار بن برد يدين بالولاء لهذه القبيلة فذكرها في هذه القصيدة، إضافة إلى ذلك أنّ قيس عيلان ناصروا مروان بن محمد وخرجوا معه لما انتفضت الأقاليم ضد الأمويين، فخاضوا سلسلة من المعارك الطاحنة معه، وقد انتصروا في بعضها، إلا أنّ تلك الصراعات الدامية، كان من نتيجتها انقضاء حكم الأمويين قتل الخليفة مروان بن محمد.

وبشار هنا يمجد انتصارات مروان بن محمد، كما يشيد بقيس عيلان الذين نصروه في حروبه، لكن القصيدة تقف قبل نهاية الأحداث، فتكتفي برسم صورة للأحداث الغامرة، وذكر البطولات النادرة، والانتصارات الباهرة التي حققها الممدوح، فيما بعد، ذلك لهيمنة الجانب الانفعالي على لغة الشاعر في هذا الموضوع وينكشف لنا ذلك من خلال تحليل خطابها.

اعتمد الخطاب في هذا الجزء من القصيدة على ضمير المتكلمين، إذ تحدث فيه بشار بلسان قبيلة قيس عيلان،وقد برز ذلك في الأبيات الآتية:

ـ في ب 49: (نا الدالة على الفاعلين في غدونا).

ـ في ب 52: (نا الدالة على الفاعلين في كنا).

ـ في ب 53: (نا الدالة على الفاعلين في ركبنا).

ـ في ب 54: (نا الدالة على الفاعلين في بعثنا).

ـ في ب 55: (نا الدالة على الفاعلين في تركنا).

ـ في ب 56: (نا الدالة على الفاعلين في أمرنا).

ـ في ب 57: (نا الدالة على الفاعلين في أقمنا).

ـ في ب 58: (نا الدالة على الفاعلين في دلفنا).

وضمير المتكلمين هنا أظهر الوظيفة الانفعالية للغة، وهو أمر يتسق والموضوع الذي يعالجه الشاعر، إذ الممدوح في وضع حرج بعد أن انقلبت عليه القبائل، فقضى أيامه الأخيرة محاولاً إنقاذ ملك تشير جملة الأحداث إلى أنه تهاوى أو كاد، لهذا ركز الشاعر في تحول مديحه على شد عزم ممدوحه بما أبداه خلصاؤه من معونة ومساندة، ولا عجب أن يتحول موضوع المدح إلى خطاب انفعالي يصب فيه الشاعر جام غضبه على المناوئين، ويجسد فيه هزائمهم، ويذكر بتخاذلهم في أيامهم السالفة، ثم يميط اللثام عن رغبتهم في انتزاع ملك الأمويين، وبالمقابل يثني ثناء حسناً على مسانديه من قيس عيلان الذين يتحدث باسمهم، ويكشف عن سجاياهم الحميدة، ويظهر بطولاتهم النادرة، وكلّ ذلك كان يستلزم من بشار خطاباً انفعالياً، ويستوجب حماسة تتلاءم مع الموقف العصيب الذي يمر به الممدوح، وعبر كل ذلك يتبين القارئ أنّ بشاراً في هذه القصيدة كأنما ينعى حكم بني أمية قبيل زواله، كما يظهر في البيت الأخير حين يصور مروان بن محمد وهو كالأسد الهصور وقد تضرج بالدماء دماء أعدائه كما يقول النص، لكن إشارة خاطفة تُدرك من خلال سياق الأحداث أن البطل الجسور، والمقاتل الصبور الذي تمثل في شخص مروان، لن يكتب له أن يصمد طويلاً,

5ً: إشكالية المعنى في النص:

1 ـ 5: وردت في سياق النص مفردات انبهمت دلالاتها على شارح ديوان بشار، مما حمله على استدعاء مفردات من خارج السياق لتوضيح بعض المعاني، بحجة أنّ تلك المفردات اتخذت صوراً على غير الصور التي وضعها المنشئ، وكان الدافع إلى ذلك التصرف في متن النص خصوصاً، أنّ شعر بشار وغيره قد تجاذبته الأيدي، وتعاوره النساخ، فتسلل إليه شيء من التحريف هذا أمر، وأمر آخر يعرضه اتصل بزعم نفر من الرواة أنّ كثيراً من أبيات هذه القصيدة لم تسلم من الشك، إذ يسوق ما رواه الأصفهاني أنّ إسحاق الموصلي كان يطعن على بشار بعض شعره، فقيل له: "أتقول هذا لمن يقول:

إذا كنت في كل الأمور معاتباً

صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فهذا الكلام الذي ليس فوقه كلام من الشعر، فقال إسحاق: أخبرني أبو عبيدة أنّ شبلاً الضبعي أنشده هذه الأبيات للمتلمس، وكان عالماً بشعره لأنهما جميعاً من ضبيعة" (32).

ومع أنّ الأصفهاني الذي عرض هذه الرواية قد شكك فيها بقوله: "ثم قلت لإسحاق: أخبرني عن قوله:

فلما تولى الحر واعتصر الثرى

لظى الصيف من نجم توقد لاهبه

أفهذا المتلمس أيضاً؟ قال: لا، قلت أفما هو في غاية الجودة وشبيه بسائر الشعر فكيف قصد بشار لسرقة تلك الأبيات خاصة..." (33). إلا أنّ قضية السرقات الشعرية مما يتعلق به الباحث في معالجة المعاني من جهة كونها أصيلة أو تقليدية، لا أن يحدد مدى انحرافها عن الأصل؛ لأن الأصل نفسه قد يكون مسروقاً، ومن ثم فإن ثبوت السرقة في نص ما لا يستلزم التصرف فيه، خصوصاً أنّ باب السرقة غير موصد بوجه الشعراء لأنه كما يشير ابن رشيق من دواعي الصناعة الشّعرية، وقد فرّق بين ضربين من السرقة أحدهما مذموم والآخر محمود، يقول: "اتكال الشاعر على السرقة بلادة وعجز، وتركه كل معنى سبق إليه جهل" (34)، وأما موضوع التحريف والخطأ الذي يكون في أصل النص فموضوع آخر، وهو أيضاً لا يوجب التغيير كما اتفق على ذلك العلماء فذكروا أن إجراء التعديل أو التصحيح في الرواية الشفهية أمر مختلف فيه، وأما في الكتب فقد امتنعوا عن تغييره، يقول ابن الصلاح: "إذا وقع في رواية لحن أو تحريف فقد اختلفوا فيه، فمنهم من كان يرويه على الخطأ كما سمعه وذهب إلى ذلك ابن سيرين، وهناك من رأى بتغييره وروايته على الصواب كالأوزاعي وابن المبارك، وهو مذهب العلماء والمحدثين، وأما إصلاح ذلك وتغييره في الكتب فالصواب تركه وبيان الصواب في الحاشية" (35)، وقد يكون موضوع التحريف أمراً طبيعياً في نص قديم، لذا كانت الإشارة في الحاشية أمراً ضرورياً، غير أنّ تغييره في المتن كما سنعرض بعد قليل، غير جائز عند العلماء، خصوصاً إذا كان التغيير بغير سبب جوهري كما سنرى، وكذلك ترجيح بعض المفردات البديلة لما هو موجود في النص في الحاشية قد يخرج في كثير من الأحيان عن حدود الحقيقة لكثرة وجوه التحريف التي زعم المحقق أنها دخلت في النص الأصل، حتى باتت معظم أبياته مجالاً للاضطراب، فهذا يخرج عن حد التصور أيضاً حتى دعا ذلك إلى الظن أنه كلما صادف كلمة تعارض فهمه نزع إلى الشك فيها مدعياً وجود تحريف فيها، وهذا هو جوهر الإشكال الذي نجمت عنه قضية المعنى في هذا النص، لا بل هو جوهر الجدل فيه، والخلاف حوله.

من أجل ذلك كانت إعادة قراءة النص محاولة جديدة لاسترداد ما هدر منه ولا سيما على صعيد بعض ألفاظه ومعانيه.

لقد نجمت مشكلة المعنى في النص عن عوامل لا تنحصر إذن، حيث عجز السياق في أحوال كثيرة، عن إسعاف القارئ (الشارح) بتحديد المقصود بدلالاته، لهذا وجد فجوات وانهدامات تحول دون إظهار تلك الدلالات متماسكة ومنسجمة مع فهمه، لذا قام على صعيد اللغة بتبديل بعض مفردات النص، وبين أيدينا من قصيدة بشار شواهد تدل على انتهاكه النص كما هو الشأن في قول بشار (ب4):

فاقصر عرزام الفؤاد وإنما
يميل به مس الهوى فيطالبه

فكلمة "عرزام" كانت موضع تصرف من قبل محقق الديوان فقال: "كتب في الديوان (عن رام الفؤاد)، والصواب (عرزام) وهو القوي الشديد من كل شيء" (36).

وما دفع المحقق إلى هذا التصرف وهو أمر لا تجيزه الموضوعية على أية حال، توهمه أن في صورة اللفظ غلط من جهة مخالفته القاعدة، بمعنى أنّ النسخة الأصلية للديوان حذف فيها حرف الياء مع الإضافة فرسمت العبارة (عن رام الفؤاد) وهذا يخالف القاعدة التي توجب رسم الياء، فهرب من التصحيح إلى التبديل الكلي مرجحاً كلمة أخرى وهي (عرزام) مع غرابتها وجفوتها وربما تنافرها مع السياق، ومعنى ذلك أنّ الذي دعا المحقق إلى التغير ليس التباس الدلالة، وإنما الخطأ في رسم الكلمة، ومن الغريب أنّه قد أطلع على رواية ابن المعتز في طبقاته لهذا البيت:

فأقصر عن رامي الفؤاد وإنّما

يميل به مس الهوى فيطالبه

ومع ذلك أثبت ما كان يراه صواباً، والواقع أنّ ما أثبته المحقق لا يتسق ودلالة السياق؛ لأن دلالة العرزام تدور حول القوة والشدة، والصحيح ما رواه ابن المعتز أو ما جاء في أصل الديوان أي (رامي الفؤاد) والمقصود به الحبيب، لتغدو الدلالة تتركز في أنّ المحب يقصر عن مواصلة الحبيب بعد أن جفاه وهجره.

ومن أمثلة استدعائه مفردات في الحاشية حين عمد إلى شرح المعاني ما أورده حول ما جاء في (ب13): من القصيدة:

وماء ترى ريش العطاط بجوه

خفي الحيا ما إن تلين نصائبه

مرجحاً وجود تحريف في كلمتي (الحيا ـ تلين)، إذ لم تستو له دلالة هاتين الكلمتين مع السياق فقال إن (الحيا) محرفة عن كلمة (الجبا) أي حوض الماء، و(تلين) محرفة عن (تبين) ليغدو المعنى عنده: " إن هذا الماء يخفي حوضه على الساري فلا تتبين الحجارة المنصوبة حوله" (37).

وهذا من باب حصر الدلالة، وتحديد الفهم، وتضييق المجال الذي تسبح فيه المعاني الأدبية، فكلمة (الحيا) كما انطوى عليها الديوان برسمها ومعناها لا تشكل انحرافاً واسعاً في دلالتها عن المقصود، إذ (الحيا) تعني الخصوبة والمطر، وليس هنالك ما يمنع أن تسبح دلالة الكلمة لتلامس موضع الماء لأن الماء سبب الخصوبة، ويستدل بها على وجوده، وما دام الماء كما يقول النص قليلاً ضحلاً، وما من شيء حوله يدل عليه، فمن الطبيعي أن تختفي ظواهر الخصوبة حوله.

وكذلك كلمة (تلين) يمكن أن تُفهم بصورة تغاير قراءة الشارح لتتناسب مع السياق الذي جاءت فيه، إذ ينطوي اللين في اللغة على معنى اللطف ويُحمل على معنى السيولة فيقال أرض لينة، أي ليست وعرة، وعليه تكون الحجارة التي نصبت حول غدير مهجور ضحل المياه لا تلين لقلة من يرتادها، فظلت على وعورتها، لأنّ الأمكنة المرتادة عادة توصف باللين، فلماذا لا يكون بشار قد أراد هذا المعنى من خلال تحميله بعض اللفظ طاقات مجازية لا تخرج في الأصل عن استيعاب اللغة وأفقها المتسع؟

2ـ 5: إن المشكلة الناجمة عن تأول الشارح دلالة بعض أبيات القصيدة، ناجمة في الحقيقة عن النظرة الموضعية المحدودة للكلمة، بصورة معزولة عن سياقها، وهذا ما أوقعه في شيء من العسف فاستبعد مفردات مذكورة في النص ليجعل ألفاظاً أخرى لتحل محلها لتلائم فهمه، وهذه المشكلة متكررة في أكثر أبيات القصيدة، ففي (ب21):

فلما تولى الحر واعتصر الثرى
لظى الصيف من نجم توقد لاهبه

يقف الشارح عند (تولي الحر) مدققاً النظر في معناه، في ضوء دلالة حرف العطف في قول بشار (واعتصر)، فلم يستقم له المعنى على الوجه المذكور في صورة البيت وفي هذا الموضع بالذات، لأنّه فهم من (تولى الحر) انقضاء فصل الصيف، فتساءل كيف إذن يكون اعتصار الثرى أي جفافه مع تولي الحر؟ لهذا رجح أن تكون كلمة (الحر) محرفة عن (الجزء)، والجزء بحسب فهمه يعود على حمار الوحش الذي رعى جزءاً من النبت مستغنياً به عن ورود الماء، وليس في البيت ما يوحي بذلك، والصحيح ما جاء في الديوان دون أدنى شك، والأبيات التي جاءت بعد ذلك تؤكده، إذ المراد بتولي الحر هنا حلول الليل، لأنّ الحر يتولى إذا حلّ الظلام مع بقاء فصل الصيف الذي يلتهب نهاراً فيعتصر الثرى، حتى إذا ما أقبل الليل أحست العانة بالظمأ فرنت إلى الماء كما يقول بشار في (ب25):

غدت عانة تشكو بأبصارها الصدى
إلى الجأب إلا أنها لا تخاطبه

ومعروف كما ذكرت الأشعار أنّ حمر الوحش تقصد موارد المياه ليلاً، زيادة في الأمن والحيطة، وبشار يذكر ذلك في (ب27):

فلما بدا وجه الزماع وراعه
من الليل وجه يمم الماء قاربه

وليس ذلك فحسبت، بل إنّ الشاعر قد أجرى أحداث هذا الجزء من قصيدته في الليل فذكر في (ب11):

وليل دجوجي تنام بناته

وأبناؤه من هولـه وربائبه

إذن تنجم مشكلة المعنى هنا عن تضييق الخناق على الدلالة، ومحاولة تحديدها حتى لو أدى الأمر إلى تغيير النص، من أجل ذلك نرى في التأويل حاجة ملحة، ليس من جهة التقاط الدلالة فحسب وإنما الحفاظ على كيان النصوص التي نخضعها للتحليل الأدبي.

3 ـ 5: لم تسلم أبيات كثيرة من القصيدة من عسف القراءة الضيقة،

          فقد توقف الشارح عند قول بشار(ب22):

وطارت عصافير الشقائق واكتسى

من الآل أمثال الملاء مساربه

فقيل أراد بالعصافير الجراد، وعليه توجه الشك إلى كلمة (طارت) على اعتبارها محرفة عن (صرّت) التي هي ألصق بالدلالة على صوت الجراد (38).

وفي قول بشار في (29):

إذا رقصت في مهمه الليل ضمها

إلى نهج مثل المجرة لاحبه

فقيل: إن كلمة (رقصت) لا تناسب كلمة (ضمها) في هذا البيت، لهذا حام حولها الشك مثل أن تكون محرفة عن (رفضت)، ومثلها كلمة (مهمه) التي ظن أنّها محرفة عن (بهمة) (39).

وهنالك أمثلة كثيرة أثبتها شارح الديوان تثير خلافاً واسعاً من جهة الدلالة.

وفحوى القول: إن كنا قد استعرضنا بعض الشواهد التي قيدت دلالاتها، وناقشنا جوانب منها، فإن هدفنا لا ينطوي على تهوين ما صنعه الشارح، لأنّ علمه هذا قائم على فهمه هو، وما نراه من خلل قد حدث في شرحه بعض المعاني لا يلغي جهده في خدمة القصيدة وكشف جوانبها الغامضة، وما نعده مآخذ على قراءته يقتصر على محاولته حصر الدلالة الأدبية في جهة واحدة، فهذا كما أشرنا لا يلائم طبيعة تلك الدلالة التي من شأنها الانطلاق وعدم التعيين، مما يضمن للنص الانفتاح على القارئ في كل زمان ومكان، وهذه ليست صفة نخلعها على نصوص التراث، أو فكرة ندبجها حتى نرقى به إلى مستوى لم يرق إليه، بل إنّ النص الذي بين أيدينا نص حي منفتح يقبل المحاورة وتعدد الدلالة ويستلزم مزيداً من النظر والتأويل.
شكرا لتعليقك