بشار بن برد (95-167 هـ / 714-784م)
هو بشار بن برد العقيلي،
ويكنى بأبي معاذ. فارسي الأصل، ولد أعمى على مقربة من البصرة حيث نشأ مختلفاً إلى الأعراب
الضاربين فيها. وكان ضخماً، طويلاً، عظيم الخلق، كريه المنظر، سيىء الخلق، برماً بالحياة،
بذيء الكلام والهجاء، خليعاً، ماجناً، شعوبياً، متعصباً للفرس، مزدريا بالعرب، متهكماً
على أساليبهم ومفاخراتهم. أدرك الدولتين : الأموية والعباسية.
كان بشار رئيس شعراء العصر العباسي الأول، بلا جدال، وأكثرهم
تأثيراً في الانقلاب الشعري الذي امتاز به ذلك العصر، ومن أكثرهم تقرباً من الخلفاء
لتقدمه في الشاعرية، وهي صفة اتصف بها النابهون من المكافيف : كهوميروس عند اليونان،
وأبي العلاء المعري عند العرب قديماً، وملتون عند الانجليز - شديد المجون والاستخفاف
بالناس، كثير الاستهتار بالدين، متهماً بالزندقة، نهاشاً لاعراض الناس.
عاصر جريرا والفرزدق وهجا أولهما. امتاز بكثرة شعره. ومعظمه
في فنون المدح والهجاء، والفخر والغزل والحكم. ليس لبشار ديوان شعر مجموع، على كثرة
ما نظم من القصائد التي بلغت، على حد قوله، 12 ألف قصيدة . ولذلك جاهر أن له 12 ألف
بيت جيد. ومما اشتهر له قوله في الأذن التي أغنته عن العين :
يا قومي أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانـا
هو بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي بالولاء أبو معاذ ويلقب
بالمرعث, لأنه كان في أذنه, وهو صغير, رعاث, وهو (القرط) . أصله من طخارستان (غربي
نهر جيحون) ، ونسبته إلى امرأة من بني عقيل, قيل إنها أعتقته. نشأ في بني عقيل واختلف
إلى الأعراب المخيمين ببادية البصرة فشب فصيح اللسان, صحيح البيان, وهو آخر من يحتج
بشعره النحاة. ولد أكمه, فما رأى الدنيا قط, على أنه كان يشبه الأشياء بعضها ببعض في
شعره, فيأتي بما لا يقدر عليه البصراء.
ولد هذا الرجل في البصرة عام 714م وفيها نشأ .. والبصرة في
ذاك الوقت موئل العلماء والفقهاء وأهل الإجتهاد وأصحاب الكلام .. فهو شاعر من أصل فارسي
عاش بين العصرين الأموي والعباسي ويعتبر من أشهر هذين العصرين وأجذلهم شعراً باجماع
الرواة إلا أن شعره غلب عليه المجون الفاضح والكلمات البذئية وكان له أعداء كثيرون
بسبب هجومه لهم حتى أنه أتهم بالزندقة قبل قتله .. عاش هذا الرجل يتابع كتب الأدب والتاريخ
القديمة حتى أشتهر بشعره .. وكان أحد البلغاء المكفوفين وإمام الشعراء المولدين ..
وكان مرهوب الجانب مخشى اللسان ، وقد لاقى الأذى والاضطهاد بسبب تعرضه لأعراض الناس
وعدم تعففه في مهاجمتهم ..
وقد قال عنه الجاحظ : (المطبوعون على الشعر : بشار
بن برد والسيد الحميرى وأبو العتاهية وأبن أبى عيينه ولكن بشار أطبعهم ) ..
حــيـاتـه
تنقل بشار بين المدن العراقية يبحث عن العلم ثم عاد إلى البصرة
وراح يختلف على مجالس المتكلمين وكان يمدح ولاة العراق ومنهم عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز
حيث كان يجلس ويحضر مجالسه ويستمع إلى محاوراته مع من كانوا يعتنقون ديانات ومذاهب
منحرفة مثل الثنوية المجوسية والدهرية الهندية ..
ومضى بشار يعلن ذندقته لا يزدجر مصرحاً بأنه لا يؤمن إلا
بالعيان وما شهده الحس ، فهو لا يؤمن بجنة أو نار ولا ببعث ولا حساب ، ويحاول أن يثير
الغبار في وجه واصل وغيره من المعتزلة ، فيعلن أنه يعارض ما يذهبون إليه من ان الإنسان
يخلق أفعاله مما أثار غضب عمر بن عبيد خليفة واصل .. وكان مما زاد هذه الثورة في نفسه
أن رآه يكثر من غزل مادى آثم يعد خطراً على شباب البصرة وبناتها .. فهتف في بعض خطبه
الواعظة داعياً إلى قتله ..
وهكذا كان الخوف قد أخذ من بشار مأخذه وراح يختفي عن أعين
الناس .. وفجأة ظهر بعد وفاة عمر بن عبيد .. فقصد حران وامتدح هناك سليمان بن هشام
بن عبدالملك ثم اتجه إلى واسط حيث يزيد بن عمر بن هبيرة والى العراق فاستقبله إستقبالاً
حافلاً وراح بشار يكيل له المدائح ويفخر بقيس القبيلة العربية .. ثم عاد إلى البصرة
وأخذ يمدح إبراهيم بن عبدالله وهو آنذاك زعيم ثورة العلويين ..
كان ضخماً عظيم الخلق ومجورا الوجه جاحظ المقلتين تغشاهما
لحم أحمر ، فكان أقبح الناس عمى وأفظعهم منظراً .. حتى أنه قال في وصف نفسه ..
والله إني لطويل القامة عظيم الهامة ، تام الألواح ، أسجع
الخدين . عرف الشعر وهو في الصغر منذ العاشرة من عمره وهو يهجو الناس وكان يخشى من
سلاطة لسانه وافحاشة في الهجاء ..
وعندما قيل له إنك لكثير الهجاء؟
فقال : إني وجدتُ الهجاء المؤلم أقوى للشاعر من المديح
الرائع ، ومن أراد من الشعراء أن يكرم في دهر اللئام على المديح فليستعد للفقر ، وإلا
فليبالغ في الهجاء ليخافُ فيعطى ..
وعرف عنه الغزل والتشبب بالنساء والمجون وسئل مرة عن نهجه
في الحياة فقيل له أي متاع الدنيا آثر لديك .. فقال طعام مزّ ،، وشراب مر ،، وبنت عشرين
بكر . . وكان كثير الجرأة في غزل النساء حتى وصلت شكوى أهالي البصرة إلى الخليفة العباسي
المهدي فاضطر الخليفة إلى حبسه مدة قصيرة أدباً له ..
كان بشار يدين بدين الخوارج وبقيت الزندقة وبشار دون رأي
قاطع وهو يتلون بشعره مع القولين فهو القائل :
كيف يبكى لمحبس في طلول .. .. .. .. من سيبكى لحبس يوم طويل
إن في البعث والحساب لشغلاً .. .. .. .. عن وقوف برسم دار
محيل .
وهو القائل :
الأرض كظلمة والنار مشرقة .. .. .. والنار معبودة مذ كانت
النار ..
وقيل أن سبب قتله هو هجائه للخليفة المهدي بقصيدة
وعندما سمعها وزير الخليفة المهدي دخل على الخليفة وحضره
عليه لأنه سبق وأن كتب فيه كلام بذئ ويحمل عليه غيظاً فظيعاً ..
وعندما سمع الخليفة هذه القصيدة ذهب بنفسه إلى حيث يسكن بشار
فسمع شخصاً يؤذن للصلاة في غير وقتها ..
وعندما سأل الخليفة ما هذا الأذان ؟! فقالوا له :- هذا
بشار بن برد حين يسكر يقوم ويؤذن .. فشتد غضب الخليفة أكثر وأمر بإحضاره وشتمه بعبارة
يازنديق أتلهو بالآذان في غير وقت الصلاة وأنت سكران ثم أمر بضربه بالسياط حتى مات
على أثرها ..
أشعاره
يذكر ابن رشيق القيرواني في (عمدته)، سئل بشار: " بم
فقت أهل عمرك وسبقت أبناء عصرك: في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه؟ قال: لأني لم أقبل
كل ما تورده علي قريحتي، ويناجيني به طبعي، ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن، ومعادن
الحقائق، ولطائف التشبيهات، فسرت إليها بفكر جيد، وغريزة قوية، فأحكمت سبرها، وانتقيت
حرها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت عن متكلفها، ولا والله ما ملك قيادي الإعجاب بشيء
مما آتي به " (74)، كما قرأتَ فالرجل قد عجن الطبع الفطري لموهبته، وإرهاف حسّه،
وفسجلة تكوينه النفسي لكونه من المولدين، فارسي الأصل... بالخلق الإبداعي الفكري التخيّلي
اللغوي لصناعته، وتطويع لغته وفكره سبراً وكشفاً دون تكلف وإعجاب، ولابد أن نشير أنّ
بشاراً قد تفاعل واستوعبَ النهضة اللغوية والاجتماعية في عصره، وعكسها في شعره، فاعتمد
على عمق الفكرة، وأسلوب البيان وعنصر المفاجأة، والإحساس الإنساني الشمولي لتجاوز عقدة
نقص التوليد العرقي، لهذا بشار وأصحابه " زادوا معاني ما مرت قط بخاطر جاهلي ولا
مخضرم ولا إسلامي، والمعاني أبداً تتردد وتتولد، والكلام يفتح بعضه بعضاً..."
(75)
وبكلمة أخرى تأثر فيها ببيئة (البصرة ) الكلامية و الفلسفية
والاجتماعية واللغوية، فمزج بين أصالته البدوية حيث نشأ في أحضان بني عقيل الأعراب
الأقحاح الفصحاء، وبين حاضرة البصرة بفنونها وزخارفها وبساتينها وتنوع أجناسها،فاستمد
الناس منه فاكهة رفيعة القيمة:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
والرجل كان رائعاً في مطالع قصائده،ملهماً في وصفه رغم فقدان
باصرته،لا بصيرته، دقيقاً في اختيار شوارد كلماته - مع بعض الشاذ من منظومه - متناسقاً
في التوفيق بين ألفاظه البليغة، وملائمتها للمعاني الشريفة، وأنغامها الإيقاعية الشجية
حتى قال (الحاتمي): إنّ أحسن ابتداء لشاعر محدث هو- يعني قول بشار -:
أبى طلل بالجزعِ أنْ يَتكلما
وماذا عليهِ لو أجابَ مُتيما
وبالقاعِ آثارٌ بقينَ وباللوى
ملاعبُ لا يغرفنَ إلا تَوهُّما (76)
تأمله، وقد صكَّ سمعك بذكرى النفر الماضين في مطلعه....لخولة
أطلال...متيم قلبها...وسقط اللوى... رائحة الماضي تطيب الأنوف، وكذلك برع في وصفه التقليدي
حتى أنـّه رفع بالواقع إلى مستوى الخيال المبالغ المتحدي زهواً وفخرا، ولا ألومه على
سمو فخره، كما فعل بعض النقاد القدماء، ممن لا يفقه جبلة الشعراء، فيعدّهم سوية العلماء!:
اذا ما غضبنا غضبةً مُضريةً
هتكنا حجابَ الشمسِ أو قطرتْ دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلةٍ
ذرى منبرٍ صلّى علينا وسَــــلما
ولم يكتفِ باستهلاله المتميز، بل أراد أن يصول ويجول بتشبيهاته
الجاهلية المركبة في صورها المعقدة حتى وصل امرأ القيس وجاراه مقلداً ومنازعاً، وفاقه
متفلسفاً متكلماً:
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى
وبالشوك والخطى حمرثعالبُهْ
غدونا له والشمس في خدر أمها
تطالعنا والطل لــــم يجر ذائبُهْ
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليــــــــل تهاوى كواكبُهْ
لهذه الموازنة العبقرية الفائقة بين أصالة القديم بفخامته
وحداثة العصر بحضارته، وحروف قوافيه السهلة النطق من ميم ونون وباء وراء، بإطلاقها،
ووصلها , وحركاتها، القابلة للإنشاد والغناء، جعلت معاصريه يفضلونه، فالأصمعي يعتبره
(خاتمة الشعراء) (77)، والجاحظ يعدّه الأشعر قائلاً:" وليس مولد قروي يعد شعره
في المحدث إلا وبشار أشعر منه..." (78)، والجاحظ الكبير، يعني ما يقول، فبشار
حافظ على البنية التشكيلية للقصيدة القديمة مهابة وضخامة وبلاغة، وأدخل عليها من المضامين
الجديدة إبداعاً، تميّز به جمالاً، فبقى خالداً في الحافظة العربية، بل يزيد القيرواني
في (عمدته ) مؤكداً على أنه أفضل من أبي نؤاس، الحسن بن هاني، قائلاً: " أشهرهم
وأشعرهم بشار بن برد، وليس يفضل على الحسن مولد سواه..." (79).
ج - أول مَن فتق البديع:
ولم يكتفِ القيرواني - وغيره ومما نحلل - بهذه الريادة الفنية،
والأفضلية الشعرية أن يمنحها لبشار، حتى عندما آتى على البديع، وتدرج منوهاً بروّاده
الأوائل كالصريع المسلم، وأبي تمام الحبيب، والبحتري الوليد، وابن المعتز العبد الله،
ولكن جعل بشاراً مفتقاً لهذا العلم، ونلخص لك استشهاداً: "... فأما حبيب فيذهب
إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه، مع التصنيع المحكم طوعاً وكرهاً، يأتي للأشياء
من بعد، ويطلبها بكلفة، ويأخذها بقوة. وأما البحتري فكان أملح صنعة، وأحسن مذهباً في
الكلام، يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا
مشقة. وما أعلم شاعراً أكمل ولا أعجب تصنيعاً من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية
لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطف أصحابه
شعراً، وأكثرهم بديعاً وافتتاناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها
في هذا الباب، غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعاً
منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد؛ لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، ولأنهما
طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقاً سابلة، وأكثرا منها في أشعارهما تكثيراً سهلها عند
الناس، وجسرهم عليها. على أن مسلماً أسهل شعراً من حبيب، وأقل تكلفاً، وهو أول من تكلف
البديع من المولدين، وأخذ نفسه بالصنعة، وأكثر منها. ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل
مسلم صريع الغواني إلا النبذ اليسيرة، وهو زهير المولدين: كان يبطئ في صنعته ويجيدها
وقالوا: أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد، وابن هرمة، وهو ساقة العرب وآخر
من يستشهد بشعره. ثم أتبعهما مقتدياً بهما كلثوم بن عمرو العتابي، ومنصور النمري، ومسلم
بن الوليد، وأبو نواس. واتبع هؤلاء حبيب الطائي، والوليد البحتري، وعبد الله بن المعتز؛
فانتهى علم البديع والصنعة إليه، وختم به. وشبه قوم أبا نواس بالنابغة لما اجتمع له
من الجزالة مع الرشاقة، وحسن الديباجة، والمعرفة بمدح الملوك. وأما بشار فقد شبهوه
بامرئ القيس؛ لتقدمه على المولدين وأخذهم عنه، ومن كلامهم: بشار أبو المحدثين..."
(80)، ومن جديده ايضا حسن التعلل فهو يتناسى العلة الظاهرة ويلتمس علة أخرى طريفة مثل:
عميت جنينا والذكاء من العم
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وكذلك في قصيدةٍ أخرى له، يراها ابن المعتزفي (طبقات شعرائه)
مثالاً حسناً لإحكام رصفه وحسن وصفه أولها:
جفا جفوة فازور إذ مل صاحبه
وأزرى به أن لا يزال يصاحبـه
خليلي لا تستكثرا لوعة الهوى
ولا لوعة المحزون شطت حبائبه (81)
سمات البديع في البيتين جلية، ففي البيت الأول تربّع الجناس
غيرالتام مرتين (جفا: جفوة، صاحبه: يصاحبه )، والتكرار في البيت الثاني في (لوعة...)،
ولم يكن بشار قاصداً البديع، وإنما البديع جاء على لسانه عفوياً، وكانت:"العرب
لا تنظر في أعطاف شعرها، بأن تجنس أو تطابق أو تقابل، فتترك لفظة للفظة، أو معنى لمعنى،
كما يفعل المحدثون، ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى وإبرازه، وإتقان
بنية الشعر، وإحكام عقد القوافي، وتلاحم الكلام بعضه ببعض (82).
فذلكة الأقوال بشار فتق علم البديع، ومسلم توسع فيه وأسس
له اسما , وحبيب وضع منهجاً، ووسِم به، وابن المعتز صنف مؤلفا منه،وأبدع فيه , أما
دعبل وأبو نؤاس والبحتري , شرعوا به، وتخلصوا منه منعاً للتكلف والصنعة والإسفاف، كما
يزعمون ويقدرون.
د - الأبحر القصيرة الراقصة، والطويلة المطربة الغناء، وشعر
الغزلالحسي المفضوح:
وبشار حبّذ الأبحر القصيرة الراقصة، وأكثر منها بمجون وعبث،
ويروي ابن المعتز حادثة حدثت في عهد جدّه الرابع - لأن المتوكل جدّه الأول - ولا أميل
لذكرها بالتمام، لأنّ مقدمتها تخدش حياء هذا الزمان!! ولكن الشعر شعر من بعد، يقول
ابن المعتز الذي استخلف ليلة واحدة، وقتل فيها ( 296 هـ / 908 م)، قال المهدي لبشار:
" أجز هذا البيت.
" أبصرت عيني لحيني " فقال بشار على البديهة:
"أبصرت عيني لحين"
منظراً وافق شيني
سترته إذ رأتني
تحت بطن الراحتين
فبدت منهُ فضول
لــــم توار باليـدين
فانثنت حتى توارت
بيـن طيٍّ العكنتين
فقال المهدي: والله ما أنت إلاّ ساحر، ولولا أنك أعمى لضربت
عنقك..." (83)
بل حتى في أبحره الطويلة يتوخى الطرب والغناء، , وننقل عن
(طبقات ) المعتز نفسه مما من غزله الطيب الحسن المليح قوله: فـ "، يعكس عن نفسية
مليئه بالغرام والمجون
يا منية القلب إنّي لا أسميك ِ
أكني بأخرى أسميها وأعنيـكِ
يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر
إلاّ شهادة أطراف المساويك
قد زرتنا زورة في الدّهر واحدة
فاثني ولا تجعليها بيضة الديكِ " (84).
هل أنت معي تتأمل كيف يقتني الكلمات البسيطة العذبة الرقيقة
المحببة من مسامع عامة الناس دون تبذّل لغوي، بل بتطويع اللغة، و ببحر راقص قابل للغناء
والطرب في عصره الطروب، وبشعر حضري ناعم يهدهده على المكشوف، لا حاجة للشكوى من الحرمان،
ونقض العهد والهجران، والتلميح والرمز، وما جادت به عشتار من الأساطير وتموز ونيسان،
ولا أتركك دون لفت نظرك - وربما أنت الأدرى، فالأمر شائع - أنّ بشاراً أول من جعل الأذن
تعشق قبل العين أحيانا ً:
يا قوم اذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي؟فقلت لهم
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وكأنّ الرجل يخشى منك أنْ تنسى أذنه، وترى أعين الآخرين،
أوتحسب البصراء ببصيرتهم دون إحساس...، وإنَّ إحساسهم ليفوق إحساس البصراء بباصرتهم
للتعويض عمّا نقصهم!، فابن برد لا يستحي مني ومنك حين يكرر المعنى صائحاً بنا:
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
فبالقلب لابالعين يبصره واللب
وما تبصرالعينان في موضع الهوى
ولا تسمع الأذنان إلا من القلب
وهل تراه يكتفي بالمرتين؟ كلاّ...وألف كلا!!، ولا تحسب -
عزيزي القارئ الكريم - أن الرجل غافل عن التكرار، وإنّما يصرّ على أننا لا ندرك ما
يدور بخلده بعناد وإصرار، فيعود للمرة الثالثة ليرتل نشيده أمامنا، ويعزف على الوتر
قائلاً:
قالت عقيل بن كعب إذ تعلقها
قلبي فأضحى به من حبها أثــــرُ
أنّى ولم ترها تصبو؟فقلت لهم
إن الفؤاد يرى ما لا يرى البصرُ
وخلاصة الأمر كان مجدداً في معاني غزله الماجن، المترف في
تصاويره الحضرية الناعمة، الجديد في ألفاظه الموسيقية الناغمة،يجمع إلى الدقة في تصويره
لجاجة الشهوة، وتباريح الهوى، وإلى الرخاء في المحاورات الغرامية، و إلى الواقعية في
الوصف، خيالاً ناعماً، وغزله شديد الخطر على العفاف (85 )، لأنه حسّي مكشوف متهتك يخدّش
الحياء حتى لغير الخجول باعتباره الأمر واقعي ومعقول!!:
لا تعذلوني فإنّي من تذكرها
نشوانُ هل يعذل الصاحونَ نشوانا
لم أدر ما وصفها يقظان قد علمت
وقد لهوتُ بها في النومِ أحيانا
باتت تناولني فاهاً فألثمـــــهُ
جنيّة زُوّجت في النوم إنســانا
هذا وهو بصير، ماذا سيقول لو كان بصيرا...؟!!عجيب أمر البشار،
قال نمت، وسيقول لم أنم، وهو راهي من الرجال , وسيستعطف (عبدته) غير العبدة بقوله:
" لو توكـّأت عليه لأنهدمْ "!!، معان لم يسبقه إليها أحد , ولم يتناولها
عصر عمرو ولبد!، تمتع:
لم يطل ليلى ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألمْ
وإذا قلت لها جودي لنا
خرجت بالصمت عن لا ونعمْ
نفـّسي يا عبد عنّي واعلمي
أنني يا عبد من لحم ودمْ
إن في بردي جسما ناحلاً
لـــو توكـّأت عليه لانهدمْ
ختم الحب لها في عنقي
موضع الخاتم من أهل الذممْ
ومما يقول ومن روائع الغزل العربي:
بلّغوها إذا أتيتم حماها
أنني متُّ في الغـــرام فداها
واصحبوها لتربتي فعظامي
تشتهي أنْ تدوسها قدماها
رحمة ربّ لستُ أسأل عدلاً
رب خذني إن أخطأت بخطاها
دع سليمى تكون حيث تراني
أو فدعني أكون حيث أراها
تركتك مع الأعمى الباصرة، النافذ البصيرة، وغزله... دون أنْ
أغزله بغزلي، فشعره واضح صريح، واقعي مليح، تذهب إليه راكضاً، لا يحتاج دافعاً أو محللا،
وسمه بأنفاسه المتجددة.
هـ - التجديد في أغراضه الشعرية الأخرى من هجاء وسخرية وشعوبية:
وشاعرنا المجدد البصير، العريق العقيلي في نشأته البدويه،
والفارسي الأصل في نزعته الشعوبية،المخضرم بين الدولة الأموية العروبية، والدولة العباسية
المنفتحة للتقافات الأجنبية، والذي ترعرع بين قياسها اللغوي والشعري والفقهي، ونبذ
الشواذ من الشواهد النحوية لمدرسته البصرية، وتلقف الأفكار الزراداشتية والمانوية،
وقـُتِل بسببها اتهاماً بعد رميه بالزدقة لدوافع سياسية،أو مزاجية، جدّد وقلـّد , جدّد
كما لخص الفاخوري في (تاريخ أدبه) في هجائه، فهو يكثر من وصف المهجو بأوجه العار الشائعة،
ويتعرض لنسبه العربي، ويجعل مهجوّه ضحكة، وذلك في عبارة قريبة المأخذ، سهلة الحفظ،
وأسلوب رشيق، بل وصل إلى حدّ القذف والسباب , وهذا ما لم يفعله الشعراء السابقون له.
ولكن كان مقلداً في مدحه، متكسباً في رزقه، يميل مع ممدوحيه حيث يميليون، ويجاريهم
بما ينزعون، وبقصائد طويلة متينة رزينة جزلة، مطالعها كما طلع علينا الجاهيلون والأولون،
يبدؤها بالنسيب والأطلال والخيل والترحال!! ولكن حين يفخر بنفسه وقومه الفرس يقسو على
العرب أو الأعراب بسخرية مريرة، وعلى أغلب الظن كان سلاحه الحاد كردّ فعل مضاد، لمن
يستهين به وبشاعريته، ومقدرته اللغوية،أقرأ عن القوارير والدنانير والزنابير!!:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبتهُ
فإنـّه عربيّ ٌ من قوارير ِ
ما زال في كير حدادٍ يردّدهُ
حَتَّى بَدَا عَرَبِيًّا مُظْلِمَ النُّورِ
إِنْ جَازَ آباؤُه الأَنْذَالُ في مُضَرٍ
جازت فلوس بخارى في الدنانير
واشدُدْ يَدَيْكَ بِحَمَّادٍ أبي عُمَر
فإِنَّــــهُ نَبَطِيٌّ مـــن زنابير
ويروي صاحب الأغاني: " دخل أعرابي على مجزأة بن ثور
السدوسي وبشار عنده وعليه بزة الشعراء فقال الأعرابي من الرجل فقالوا رجل شاعر فقال
أمولى هو أم عربي قالوا بل مولى فقال الأعرابي وما للموالي وللشعر فغضب بشار وسكت هنيهة
ثم قال أتأذن لي يا أبا ثور قال قل ما شئت يا أبا معاذ فأنشأ بشار يقول:
ِسأخبر فاخر الأعراب عني
وعنه حين تأذن بالفخار ِ
أحين كسيت بعد العري خزاً
ونادمت الكرام على العقار
تفاخر يابن راعيةٍ وراع ٍ
بني الأحرار حسبك من خسار
وكنت إذا ظمئت إلى قراح ٍ
شركت الكلب في ولغ الإطار
تريغ بخطبة كسر الموالي
وينسيك المكارم صيد فار ِ (86)
لم يسبق أحدٌ بشاراً بمثل هذه الجرأة، والتطاول على العرب،
ولكن هذا الشعر أغراه بالتمادي، بعد أن وجد باب الحرية مفتوحاً على مصراعيه، والدولة
منشغلة بالقضاء المبرم على الأمويين في عصر السفاح، ومن بعد ثورتي النفس الزكية في
المدينة وأخيه إبراهيم في البصرة (145 هـ - 762 م)، ولما قام المهدي بالخلافة (
158 هـ )، وبالرغم من أن الشاعر مدحه، لم ينفعه المديح حتى وقع في مصيدة الزندقة، فقتل
ضرباً بسياط البصرة مذموماً، بالتاريخ أعلاه هل تطلب المزيد من أخبار بشار المجدد المجيد؟
أمّا نحن فرأينا أن نكتفي بالبيت العجيب أدناه، وشكراً لكم للإطالة بكلِّ ما أوردناه!!
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء