اسباب كثرة الحروب عند العرب في الجاهلية
العلاقات القبلية عند العرب في العصر الجاهليأولاً - العلاقات الحربية :
دوافع الحرب في العصر الجاهلي :
هناك عواملُ كثيرةٌ جعلتِ الحرب ظاهرة شبه مستمرة طوال العصر الجاهلي منها:
1- طبيعةُ الظّرف الصحراوي الشحيح، فإنّ ضيق أسباب الحياة في الجزيرة العربية أوجد حركة مستمرة نحو الماء والمرعى. فقد كان التسابق نحوهما سبباً في قيام حروب بين المتسابقين، أو بين الوافدين والنازلين بهذه المواضع من قبلهم.
والحروب التي دارت بين بكر وتميم ، وبلغت نحو خمسين يوماً، كان سببُها الصراع على أسباب الحياة ، فقد كانت هاتان القبيلتان متجاورتين في منازلهما ومياههما، وكانت أرض تميم أكثر خصباً ، فكانت بكر تنتجع أرض تميم، وترعى بها إذا أجدبوا، فإذا أرادوا الرجوع، لم يجدوا عورة يصيبونها، ولا شيئاَ يظفرون به إلا اكتسحوه"( ). وكان للفرس دور كبيرٌ في تأجيج الصراع بينهما.( )
2- الرغبةُ في السيطرة والسيادة ، فبعض القبائل كانت ترى الحرب أمراً طبيعياً لتسود، وتسيطر، وتستأثر بالرئاسة والسؤدد، كالحرب التي دارت في يثرب بين الأوس والخزرج ، وكالحرب التي دارت بين بني يربوع من تميم والمناذرة ، بسبب رغبة المناذرة في تحويل الردافة عنهم، وعرف هذا اليوم بيوم طِخفة.
3- الرغبةُ في التخلص من حكم أجنبي ، كالحرب التي قامت بين ربيعةَ واليمن، وكانت ربيعة تهدف إلى التحرر من طاعة اليمن. ففي يوم خزاز" توحدت كلّمة الشماليين ، وكانت مظهراً من مظاهر الاتجاه الشعوري في أمة هاجتها الأحداث إلى طلب وحدة كبرى لمقاومة شرّ أحاط بها . واستجابة لوازع فطري إلى رد خطر ماحق ، ومقاومة عدوّ بطش بهم، وفرقهم، وأذلهم…. وكان انتصار هذا الفريق من عرب الشمال باعثا لهم على العمل للاحتفاظ بثمرته، فزادهم تكتلاً حول كليْب . ورأى كليبٌ أن ينتهز هذه الفرصةَ ، فيخلق من هذه القبائل أمة واحدة. فأخذت هذه الوحدة تحت قيادته مظهراً استقلالياً قوياً.( )
وفي هذا اليوم ، قال عمرو بن كلثوم ( ) :
ونحن غداةَ أُوقد في خَزازٍ رفدْنا فوْقَ رِفْد الرّافدينا
4- البنيةُ الاجتماعيةُ القائمةُ على آصرة الدّم، ولهذا السبب قضى سكان الجزيرة العربية حياتهم، يحارب بعضهم بعضا، منشقين على أنفسهم.
5- الاستجابةُ لما تتطلبه التبعيةُ للروم أو الفرس، مثل يوم عين أُباع، ويوم حليمة.
6- أسبابٌ نفسيةٌ نابعةٌ من الرغبة في الدفاع عن الكرم والشرف ، أو بسبب اعتداء على ضيف أو حليف ، أو بسبب إهانة ( ) ".
7- عدم وجود سلطة مركزية عامة يخضع لها العرب جميعاً ، فعدم وجود حكومة عليا تتولى شؤون البلاد كلّها ، وتُشيع العدل بين الناس على السواء ، وتنتصف للمظلوم من الظالم ، وتأخذ على يد المجرم والمسيء ، هو العامل الأساسي في حدوث المنازعات ،وانتشار الفوضى ، وقيام الحروب ( ) .
8- ويشير البهبيتي بأصابع الاتهام إلى ملوك الحيرة ، " الذين كانوا وراء كلّ خلاف يقع بين الناس في تلك الفترة ، لا يفلت من ذلك يوم واحد من أيام العرب قبل الإسلام . فالقبائل تلتقي وتفترق في هذا السبيل ، والدّماء تجري ، والموت يبتلع الناس ابتلاعاً . كلّ ذلك تدفع إليه سياسة التفرقة التي كان يركبها إذ ذاك هؤلاء الملوك ( )".
9- وقوعُ الجزيرة في مركز طرق التجارة بين ثلاث إمبراطوريات ، يطمح كلّ منها في السيطرة على هذه الأرض من خلال إذكاء عوامل الفرقة ، والتّشتت بين قبائلها ، بصورة تشغلهم عن المواجهة الموحّدة في أكثر الأحيان ( ) .
ولقـد اعتاد العرب والمؤرخون أنْ يُسَمّوا الحروب التي وقعت بين العرب " أيام العرب " . قال ابن السِكّيت :" والعرب تقولُ الأيّام بمعنى الوقائع … وإنمّا خصّوا الأيّام دون ذكر اللّيالي ، لأنّ حروبهم كانت نهاراً ( ).
ونقصد بأيام العرب تلك الوقائعَ والحروبَ التي وقعتْ بينَ العربِ أنفسهم ، وبينهم وبين الأمم الأخرى ، والتي كانت مظهرا من مظاهر الكرامة والخلق العربي لما ظهر خلالها من تقاليدَ ومُثُلٍ كانت صفةً لازمةً للعربيّ على مرّ العصور ، من وفاء بالعهد ، وانتصار للمظلوم ، وحماية للجار، ودفاع عن المحرّمات ، وإجارة للمستجير …
وكان اليوم يسمى غالباً باسم المكان الذي حدثت فيه الموقعة، كيوم طخفة، ويوم أوارة ، وإما باسم ماء قريب من مكان الموقعة كيوم الكُلاب، وإما باسم شخص ظاهر، أو له أثر عظيم كيوم حجر الذي سميتْ به الموقعةُ التي كانت بين حجر ملكِ كندة وقبيلة أسد ، وفيها قتل حجر وكيوم حليمة الذي كان بين المناذرة والغساسنة ، وقد سميت الموقعة بهذا الاسم ، لأن حليمة بنت الحارث بن أبي شمر الغساني كانت تضع عطراً على كلّ جندي من جيش أبيها ، وقد وعد أبوها أن يزوجها من الجندي الذي يقتل ملك المناذرة .
وإذا حدثت عدة مواقع لسبب واحد ، فإن هذه المواقع كانت كلّها في العادة تسمى باسم السبب الأصلي لهذه الأحداث ، كحرب البسوس ، وكحرب داحس والغبراء .
وأحيانا يُسمّى اليوم بأكثر من اسم ، كيوم ذي قار ويوم قراقر ، وقد يسمى اليوم باسميْ مكانين حدث فيهما القتال في ذلك اليوم كيوم النباج وثيتل ( ) .
جناية الباحثين :
بالغ كثير من الباحثين عرباً ومستشرقين ، في رسم صورة للعلاقات القبلية، متخذين من تعميم الأحكام أساساً للحكم على العصر .فبدتِ الحياةُ في ذلك العصر من خلال تصويرهم، سلسلةَ حروبٍ متصلة ( )، حمراء مصبوغة بالدم ( )، حامية دامية ، لا تهدأ نارها ، ولا تخمد اوارها ( )، هم دائما قاتلون مقتولون لا يفرغون من دم إلا إلى دم ( ). فالحرب شريعة مقدسة ( )، أثيرةٌ عندهم ، يثيرونها لأوهى سبب ، ويشنونها لأدنى حدث ، حتى صارت عادةً مألوفة ، وسنّة معروفة( )، لا يمرّ يوم دون غارة شنعاء ، أو قتال رهيب ( )، استولى على نفوس أهل البوادي حتى أصبح حالة عقلية مزمنة ، وأصبح شنّ الغارات نموذجا للأعمال التي يليق بذوي الرجولة الحقّة ان ينصرفوا إليها ( ). وصارت حياة الناس رخيصة تذهب بسبب كلمة ، أو هفوة، أو بلا سبب، سوى السفاهة والعبث ( ) ،لا يصحّ أن تجري الدماء من أجلها أنهاراً ( ) ، والموت يبتلع الناس ابتلاعا( ) ، والعرب بطبيعتهم سريعو الانفعال ، تثيرهم الكلّمة العارضة ( ) ، وتفور مراجل غضبهم كأن الواحد منهم " وحش في قفص " ( ) ، ويتوجه إلى المعركة بنداء عاطفي ، أو قصيدة من الشعر الحماسي ( )، فإن لم يجدوا عدواً من غيرهم قاتلوا أنفسهم ( ).
يعتاد البدوي منذ صغره مشاهدة الحياة الملأى بالأخطار ، فيعوّده أبوه ذلك عندما يحين دوره ،مما يدفعه إلى ازدراء كلّ ما يبعد عن العنف ( )، ولا يفتح العربي عينيه إلا على تألق الأسنّة ، ولا يسمع إلا صهيل الخيل ، والتصايح بالحرب، ولم يكن لهم حمى يلجأون إليه إلا صهوات جيادهم ، لذا ملأت الحروب آفاقهم ، وأصبح الحديث عنها شغلهم الشاغل ( ) .
وكلّ من يجترئ على التقدم إلى منطقة غريبة ، إنما يعرّض نفسه للقتل ، أو السلب ، على يد أولئك الأعراب الذين لا يعدون أن يكونوا أعداءه ( ).
أما علاقة البدوي بالحضري فلم يكن يرى البدوي فيه إلا فريسة شرعية في سبيل الحياة ، والحضري ينزل البدوي منزلة الوحش غير المقدور عليه ( ) بل أنه لم يستطع – بعلاقاته الاجتماعية – أن يسمو إلى مرتبة الحيوان الاجتماعي ( ).
وحاول بعض الباحثين أن يقصروا رزق الأعراب على الغزو دون سواه ، فتصوّروا أنهم كانوا يأنفون أن يرتزقوا من عمل غير السيف ، أو يكسبوا إلا من أسنة الرماح ( ). فقد كان الغزو المسلح مصدراً للغنى يقوم به شرذمة على مجموعة من الناس ، أو قافلة منعزلة ، أو حملة واسعة يقوم بها عدة ألوف من المحاربين للحصول على الغنائم ( ) .
قلّة القتل في الحروب :
وربما توهم من يقرأ أخبار هذه الوقائع ، أنها تشبه الحروب المألوفة من حيث اتصالها ، ووقائعها، ولم يكن الأمر يجري على هذا النحو، وأن كثيراً من أيام العرب لم يكن الاّ مجرد نزاع بسيط، وإن قليلاً منها هو الذي كان يرقى إلى درجة الحرب( ). وإن هذه الأيام لم تكن تفجع البدو بكثير من القتلى ( )، ومما يدل على قلة خطر هذه الأيام ما ذكروه من أن القتلى ذوي الشأن والمنزلة في حرب البسوس- التي استمرت نحو أربعين عاماً - لا يزيد عددهم على ثمانية أنفار من تغلب ، وأربعة من بكر( )، وان عدد قتلى بني عبس يوم الهباءة لم يكن يزيد في قول بني عبس أنفسهم على مائة فارس( )، وان عدد قتلى بني يربوع يوم الغبيط لم يزد على سبعة فوارس ( ).
ويعزى السبب في حرص البدوي على قلة القتل إلى عاملين اثنين :
الأول - الثأر :
وهو أثر من آثار العصبية القبلية، وكان أهل من يُراد أن يثأر له، يأخذون أنفسهم بطقوس بدوية منها : أن يجزوا شعورهم، ويقصروا أثوابهم ، ويمتنعوا عن أكلّ اللحم( )، وشرب الخمر( )، والاختلاط بالنساء ( ) .
وكانوا لا يقبلون الدية ، وكانوا يعدونها عاراً ومنقصة ، وتقول امرأة في أخ لها قتل ، وقد فكرت عشيرتها في قبول ديته ( ) .
إن أنتــم لـم تطلـبوا بأخيكـم فذروا السلاح ووحّشوا بالأبرق
وخذوا المكاحل والمجاسد والبسوا نُقَبَ النساء فبئس رهط المرهق
فهم أن لم يثأروا لأخيها حق عليهم أن يلقوا السلاح، ويمضوا على وجوههم إلى مكان بعيد بالابرق . فيتزيوا بزي النساء ، ويتعطروا، ويتزينوا بزينتهن.
وهذا شاعر آخر يتمنى لو أن أهل القتيل قبلوا الدّية لساقوا لهم سيلاً مفعماًَ من المال، ولكنهم قوم يرفضونها خوفاً من العار، لذلك اختاروا الدم على اللّبن( ):
فلو أن حياً يقبل المال فدية لسقنا لهم سيلاً من المال مفعما
وكانت بعض الخصومات تتوقف نتيجة تعويض على هيئة " دية " تعطى لقريب القتيل( ) ،مقدرة بعدد من الابل ، ولكن قتل القاتل كان أفضل الحلول( ). ومع ما في الثأر من قسوة إلا أنه كان " قانوناً وقائياً" يحد من فوضى القتل، ففي ظله كان العربي يشعر بالأمن في بيئة لا يسودها نظام ولا يسيطر عليها قانون( ).
العامل الثاني - الدّية :
وعلى الرغم من تشبث المجتمع القبلي بشريعة الثأر ، إلاّ أن الضرورة قد ألجأت العرب إلى قبول حل وسط، والتخلي عن طلب الثأر ، في بعض الأحوال ،وهو الرّضا بالدّية، وخوفاً من العار الذي كان يلحق بالقبائل، فقد لجأوا إلى حيلـة معروفـة في المجتمع القبلي وهي ما يسمى بسهم الاعتذار أو التعفية ( )… ولم تكن الدية واحدة في جميع الأحوال ، كما أنها قد تزيد حين يكون الرجل سيداً أو شريفاً ، أو إذا قتل بعد قتله. ولهذا لم يرض أزد البصرة أن يأخذوا بمسعود بن عمرو إلا عشر ديات ( ) ،وكذلك كانت دية الملوك ( ) .
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء