ومشيت في الجنازة وحيداً ... تستحق القراءة والشير
هل هذا هو مصيرنا؟
لواء دكتور/ سمير فرج
مقالي الاسبوعي في جريده الاهرام الخميس ٢٩ مارس ٢٠١٨
عندما توليت رئاسة إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية، كنا نحتفل مرتين، سنوياً، بشهداء حرب أكتوبر 73 ... وفي أحد الأيام، قدم لي واحداً من الأصدقاء، سيدة فاضلة ترغب في مساعدة أسر الشهداء من الجنود وضباط الصف، ورحبت بطلبها، إذ أنه ليس بغريب، كما أنه متاح لجميع المصريين. وبالفعل اشتركت معنا، هذه السيدة الكريمة، في أولى الاحتفالات، وكانت إفطار العاشر من رمضان.
ثم ألتقيتها، مرة أخرى، بعد شهر واحد، من ذلك اليوم، فعلمت بمساعدتها لأكثر من 200 أسرة من أسر الشهداء، سواء في مساعدة في الزواج، أو إجراء عمليات جراحية، أو سفر للعمرة ... وبالرغم من أن الكثير من المصريين يتقدمون لمعاونة أسر الشهداء، سواء معنوياً أو مادياً، إلا أن تلك السيدة، تحديداً، كانت تنفق من مالها الخاص بكرم حاتمي، حتى أنني أطلقت عليها، آنذاك، لقب "أم الشهداء"، لما رأيته منها من تفان وإخلاص، عجزت شخصياً عن تفسير أسبابه ... فقد كانت، على سبيل المثال، تجوب محافظات مصر شمالاً وجنوباً، لدعم أسر الشهداء، غير مكتفية بالدعم المادي، وإنما مصرة على أن يصاحب ذلك دعماً معنوياً. وبعد أن استمر عطاءها، بل وازداد أكثر وأكثر، عرضتا عليها التكريم من حرم السيد رئيس الجمهورية، فرفضت رفضاً قاطعاً، وكان ردها "كده يضيع الثواب"!
ومرت السبع سنوات سريعة، وانقطعت الصلة مع هذه السيدة الفاضلة، بعد أن تركت مكاني في الشئون المعنوية. وبعد أكثر من خمسة عشر عاماً، تلقيت مكالمة تليفونية من إحدى مديرات دور المسنين، وقالت لي بأن هناك من يريد محادثتي، وجاءني الصوت مألوفاً إلى حد ما، إلا أنني لم أتعرف على صاحبته، في تلك اللحظة، حتى عرفتني بنفسها، أنها "أم الشهداء"، كانت مفاجأة أن أتلقى مكالماتها، وصدمة أن تأتيني من دار للمسنين.
أنطلقت على الفور لزيارتها ... ويا لهول ما رأيت ... لقد تسللت إلى ملامحها بصمات الزمن الغائرة ... وأصبحت، بالكاد تقف، ولا تتحرك إلا بمشاية ترتكز عليها! وأخبرتني مديرة الدار أنها شاهدتني على أحد القنوات، وطلبت أن تراني، فظلت تبحث عن رقم هاتفي حتى وجدته. أبلغتني مديرة الدار أنها نزيلة بالدار منذ خمس سنوات، إذ أن أولادها مقيمون في الخارج، وابنتها الوحيدة، المقيمة في مصر، تزورها، بالكاد، كل عدة أشهر.
لازالت "أم الشهداء" ميسورة الحال، ولا هم لها سوى وحدتها ... جلسنا معاً نتذكر الماضي الجميل، والتف حولنا باقي سيدات دار المسنات، يستمعون إلى ما سبق أن قصصته عليهم مراراً، ولكن في وجود شاهد الإثبات الوحيد على عظمة تلك السيدة. ناولتني عدد من الصور الفوتوغرافية لأولادها وأحفادها، بدا من مظهرها أنها تعود إلى عشر سنوات على الأقل.
أحد أولادها، كما علمت منها، طبيب عالمي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم يعد منها بعدما أكمل دراسته بها، فقد بذلت الأم كل غالٍ ورخيص من أجل تعليم أبنائها أفضل تعليم. وابنها الآخر رجل أعمال مشهور في دبي، أما الابنة الوحيدة، فتعيش في القاهرة!
اتصلت بهم جميعاً، لأخبرهم بحال أمهم، التي لم تراهم منذ عشر سنوات، وأحثهم على زيارتها ... فقال لي ابنها الطبيب الأكبر، المقيم في أمريكا، أن لديها من الأموال ما يكفل لها العيش "دون مشاكل" في هذه الدار، مع العلم أنه يزور مصر، كل عام! سمعت نفس الكلام من ابنها الثاني، المقيم في الإمارات. أما الابنة، فتعللت بمسئوليات الحياة التي تلهيها عن زيارة أمها! فطلبت منهم صور حديثة لعائلاتهم، علّها تجد فيهم ما يؤنس وحدتها، ولن أطيل عليكم في وصف فرحتها العارمة بتلك الصور، وهي تقارنها بما لديها من صور قديمة، ولن أحكي لكم عن مشاعر الفخر التي انتابتها وهي ترى الأحفاد وقد صاروا فتيان وفتيات!
وهكذا، عشت 3 أشهر في زيارات أسبوعية لهذا المكان ... رأيت، خلالهم، مجتمعاً جديداً لم أراه من قبل، كانت متعتها الوحيدة خلالهم، هي الحديث عن الابناء وعن ذكريات طفولتهم. وفي أحد الأيام، أخبرتني برغبتها في السفر، على نفقتها الخاصة، لزيارة أبنائها، وللأسف كان ردهم "الأمور هنا صعبة .. وعندما نزور القاهرة سوف نراها". وأحسست أنني أصبحت ضيفاً ثقيلاً على ابناءها، حتى ابنتها أصبحت تمر عليها كل شهر لتتهرب من ملاحقتي لها.
وفي أحد الأيام، جاءتني مكالمة في الصباح من مديرة الدار، تبلغني بوفاة "أم الشهداء"، وأنها فشلت في الوصول لأي من أبنائها، وتخشى دفنها في مقابر الصدقات. فأسرعت إلى الدار، وبعد اتصالات عديدة، عرفت مكان مقابر الأسرة، فأرسلت من قام بتجهيز المدفن، بينما أقمنا صلاة الجنازة في الجامع القريب من دار المسنين، وشيعنا جثمانها إلى مثواها الأخير، وأنا معها وحيداً ... فقد اعتذر ولديها عن عدم إمكانية الحضور، أما ابنتها فكانت مع أولادها بالإسكندرية للمشاركة في مسابقة رياضية!
وللمرة الثانية في حياتي، بعد وفاة والدتي، تسيل دموعي بغزارة، على من أفنت حياتها في تربية أولادها على أعلى مستوى، وخدمت أكثر من 1000 أسرة من أسر شهداء مصر، وكُتب عليها أن يواريها التراب وحيدة ... وبعدها بأسبوع اتصلت بي مديرة الدار لتبلغني بحضور ابنتها لتتسلم شهادة الوفاة، لإقامة دعوة إعلام الوراثة، لتحصل هي وأخويها على التركة الكبيرة التي تركتها لهم الأم ... واستلمت شهادة وفاة الأم، والتي اعتبرتها، في هذه الحالة، شهادة وفاة القيم والأخلاق في عصرنا الحديث.
هل هذا هو مصيرنا؟
لواء دكتور/ سمير فرج
مقالي الاسبوعي في جريده الاهرام الخميس ٢٩ مارس ٢٠١٨
عندما توليت رئاسة إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية، كنا نحتفل مرتين، سنوياً، بشهداء حرب أكتوبر 73 ... وفي أحد الأيام، قدم لي واحداً من الأصدقاء، سيدة فاضلة ترغب في مساعدة أسر الشهداء من الجنود وضباط الصف، ورحبت بطلبها، إذ أنه ليس بغريب، كما أنه متاح لجميع المصريين. وبالفعل اشتركت معنا، هذه السيدة الكريمة، في أولى الاحتفالات، وكانت إفطار العاشر من رمضان.
ثم ألتقيتها، مرة أخرى، بعد شهر واحد، من ذلك اليوم، فعلمت بمساعدتها لأكثر من 200 أسرة من أسر الشهداء، سواء في مساعدة في الزواج، أو إجراء عمليات جراحية، أو سفر للعمرة ... وبالرغم من أن الكثير من المصريين يتقدمون لمعاونة أسر الشهداء، سواء معنوياً أو مادياً، إلا أن تلك السيدة، تحديداً، كانت تنفق من مالها الخاص بكرم حاتمي، حتى أنني أطلقت عليها، آنذاك، لقب "أم الشهداء"، لما رأيته منها من تفان وإخلاص، عجزت شخصياً عن تفسير أسبابه ... فقد كانت، على سبيل المثال، تجوب محافظات مصر شمالاً وجنوباً، لدعم أسر الشهداء، غير مكتفية بالدعم المادي، وإنما مصرة على أن يصاحب ذلك دعماً معنوياً. وبعد أن استمر عطاءها، بل وازداد أكثر وأكثر، عرضتا عليها التكريم من حرم السيد رئيس الجمهورية، فرفضت رفضاً قاطعاً، وكان ردها "كده يضيع الثواب"!
ومرت السبع سنوات سريعة، وانقطعت الصلة مع هذه السيدة الفاضلة، بعد أن تركت مكاني في الشئون المعنوية. وبعد أكثر من خمسة عشر عاماً، تلقيت مكالمة تليفونية من إحدى مديرات دور المسنين، وقالت لي بأن هناك من يريد محادثتي، وجاءني الصوت مألوفاً إلى حد ما، إلا أنني لم أتعرف على صاحبته، في تلك اللحظة، حتى عرفتني بنفسها، أنها "أم الشهداء"، كانت مفاجأة أن أتلقى مكالماتها، وصدمة أن تأتيني من دار للمسنين.
أنطلقت على الفور لزيارتها ... ويا لهول ما رأيت ... لقد تسللت إلى ملامحها بصمات الزمن الغائرة ... وأصبحت، بالكاد تقف، ولا تتحرك إلا بمشاية ترتكز عليها! وأخبرتني مديرة الدار أنها شاهدتني على أحد القنوات، وطلبت أن تراني، فظلت تبحث عن رقم هاتفي حتى وجدته. أبلغتني مديرة الدار أنها نزيلة بالدار منذ خمس سنوات، إذ أن أولادها مقيمون في الخارج، وابنتها الوحيدة، المقيمة في مصر، تزورها، بالكاد، كل عدة أشهر.
لازالت "أم الشهداء" ميسورة الحال، ولا هم لها سوى وحدتها ... جلسنا معاً نتذكر الماضي الجميل، والتف حولنا باقي سيدات دار المسنات، يستمعون إلى ما سبق أن قصصته عليهم مراراً، ولكن في وجود شاهد الإثبات الوحيد على عظمة تلك السيدة. ناولتني عدد من الصور الفوتوغرافية لأولادها وأحفادها، بدا من مظهرها أنها تعود إلى عشر سنوات على الأقل.
أحد أولادها، كما علمت منها، طبيب عالمي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم يعد منها بعدما أكمل دراسته بها، فقد بذلت الأم كل غالٍ ورخيص من أجل تعليم أبنائها أفضل تعليم. وابنها الآخر رجل أعمال مشهور في دبي، أما الابنة الوحيدة، فتعيش في القاهرة!
اتصلت بهم جميعاً، لأخبرهم بحال أمهم، التي لم تراهم منذ عشر سنوات، وأحثهم على زيارتها ... فقال لي ابنها الطبيب الأكبر، المقيم في أمريكا، أن لديها من الأموال ما يكفل لها العيش "دون مشاكل" في هذه الدار، مع العلم أنه يزور مصر، كل عام! سمعت نفس الكلام من ابنها الثاني، المقيم في الإمارات. أما الابنة، فتعللت بمسئوليات الحياة التي تلهيها عن زيارة أمها! فطلبت منهم صور حديثة لعائلاتهم، علّها تجد فيهم ما يؤنس وحدتها، ولن أطيل عليكم في وصف فرحتها العارمة بتلك الصور، وهي تقارنها بما لديها من صور قديمة، ولن أحكي لكم عن مشاعر الفخر التي انتابتها وهي ترى الأحفاد وقد صاروا فتيان وفتيات!
وهكذا، عشت 3 أشهر في زيارات أسبوعية لهذا المكان ... رأيت، خلالهم، مجتمعاً جديداً لم أراه من قبل، كانت متعتها الوحيدة خلالهم، هي الحديث عن الابناء وعن ذكريات طفولتهم. وفي أحد الأيام، أخبرتني برغبتها في السفر، على نفقتها الخاصة، لزيارة أبنائها، وللأسف كان ردهم "الأمور هنا صعبة .. وعندما نزور القاهرة سوف نراها". وأحسست أنني أصبحت ضيفاً ثقيلاً على ابناءها، حتى ابنتها أصبحت تمر عليها كل شهر لتتهرب من ملاحقتي لها.
وفي أحد الأيام، جاءتني مكالمة في الصباح من مديرة الدار، تبلغني بوفاة "أم الشهداء"، وأنها فشلت في الوصول لأي من أبنائها، وتخشى دفنها في مقابر الصدقات. فأسرعت إلى الدار، وبعد اتصالات عديدة، عرفت مكان مقابر الأسرة، فأرسلت من قام بتجهيز المدفن، بينما أقمنا صلاة الجنازة في الجامع القريب من دار المسنين، وشيعنا جثمانها إلى مثواها الأخير، وأنا معها وحيداً ... فقد اعتذر ولديها عن عدم إمكانية الحضور، أما ابنتها فكانت مع أولادها بالإسكندرية للمشاركة في مسابقة رياضية!
وللمرة الثانية في حياتي، بعد وفاة والدتي، تسيل دموعي بغزارة، على من أفنت حياتها في تربية أولادها على أعلى مستوى، وخدمت أكثر من 1000 أسرة من أسر شهداء مصر، وكُتب عليها أن يواريها التراب وحيدة ... وبعدها بأسبوع اتصلت بي مديرة الدار لتبلغني بحضور ابنتها لتتسلم شهادة الوفاة، لإقامة دعوة إعلام الوراثة، لتحصل هي وأخويها على التركة الكبيرة التي تركتها لهم الأم ... واستلمت شهادة وفاة الأم، والتي اعتبرتها، في هذه الحالة، شهادة وفاة القيم والأخلاق في عصرنا الحديث.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء