pregnancy

الأستاذ / عبد الرحمن معوض - معلم خبير لغة عربية وتربية إسلامية - السنبلاوين - دقهلية


جمع القرآن الكريم 

عهد الجمع للقرآن الكريم ثمة وجهتا نظر في موضوع جمع القرآن، إحداهما تقررها المصادر السُّنية والأخرى تؤكدها المراجع الشيعية الإمامية. أما وجهة النظر السُّنية الرسمية فترجع بعملية جمع القرآن، في مصحف، إلى عهد أبي بكر الصديق، لتنتهي في عهد عثمان بن عفان بإقرار مصحف واحد رسمي وإحراق ما عداه، بينما تنص المراجع الشيعية إلى أن علي بن أبي طالب، ابن عم النبي محمد، كان قد جمع نسخة كاملة من القرآن في مصحف بعد وفاة محمد، وأن ترتيبه كان يختلف عن الترتيب الذي اتبع خلال خلافة عثمان بن عفان، لكن على الرغم من ذلك فإن علي لم يعترض على المصحف الموحد حديث الجمع، بل أقرّ به، لكنه احتفظ أيضًا بالمصحف الذي جمعه بنفسه. ومما مَيَّزَ مصحف علي عن غيره من المصاحف، بالنسبة للشيعة، هو أن المصحف الذي جمعه علي وقدَّمه للمسلمين آنذاك كان مشتملاً على عدّة مميزات: فقد كان مرتبًا حسب ترتيب نزول الآيات بدقة فائقة، فكانت الآيات المنسوخة مقدمة على الآيات الناسخة، والمكية على المدنية. وكان مشتملاً في هامشه على توضيحات مهمة جدًا تبيِّن المناسبة التي نزلت فيها كل آية، وتبيِّن كل ما له علاقة بمكان وزمان نزول الآيات، وما إليها من معلومات قيمة، كما أن ذلك المصحف كان مشتملاً على بيان تأويل الآيات وبيان المجرى العام للآيات خارج نطاق زمان ومكان نزول الآية بصورة مفصلة. وفي هذا الإطار قَالَ الإمام جعفر بن محمد الصادق: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "لَوْ أَنَّ النَّاسَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ كَمَا أُنْزِلَ، مَا اخْتَلَفَ اثْنَان"»أبرز الروايات التي تتحدث عن جمع القرآن في مصحف واحد لأول مرة خلال عهد أبي بكر الصديق، هي تلك التي تفيد أنه بعد غزوة اليمامة، التي قتل فيها الكثير من الصحابة وكان معظمهم من حُفاظ القرآن، جاء عمر بن الخطاب إلى أبو بكر وطلب منه أن يجمع القرآن في مكان واحد حتى لا يضيع بعد وفاة الحُفاظ. فكلّف أبو بكر الصحابي زيد بن ثابت لما رأى فيه من الصفات التي تؤهله لمثل هذه الوظيفة ومنها كونه من حفاظ القرآن ومن كُتّابه على عهد النبي محمد، وقد شهد زيد مع النبي العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته. ثم إن زيدًا قد عُرف بذكائه وشدة ورعه وأمانته وكمال خلقه. ثم بدأ زيد بجمع القرآن من الرقاع واللخاف والعظام والجلود وصدور الرجال، وأشرف عليه وأعانه في ذلك أبو بكر وعمر وكبار الصحابة. واتبع الصحابة طريقة دقيقة وضعها أبو بكر وعمر لحفظ القرآن من الخطأ، فلم يكتف الصحابة بما حفظوه في قلوبهم ولا بما سمعوا بآذانهم ولا بما كتبوه بأيديهم بل جعلوا يتتبعون القرآن واعتمدوا في جمعه على مصدرين اثنين أحدهما ما كتب بين يدي النبي محمد والثاني ما كان محفوظًا في صدور الرجال. وبلغت مبالغتهم في الحيطة والحذر أنهم لم يقبلوا شيءًا من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدلان أنه كتب بين يدي الرسول. واستمر زيد يجمع القرآن حتى وجد آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، وعندها حُفظت الصحف التي كُتب عليها القرآن عند أبو بكر حتى توفي، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر بعد مقتل الأخير. واتفق العلماء أن الصحابة كان لديهم مصاحف كتبوا فيها القرآن أو بعضه، قبل جمع أبي بكر لها، إلا أن هذه المصاحف كانت جهودًا فردية لم تنل ما ناله مصحف الصدّيق من دقة البحث والتحري وبلوغه حد التواتر والإجماع من الصحابة.
بعد مقتل عمر بن الخطاب، بويع عثمان بن عفان بالخلافة، وبحلول سنة 650م كان الإسلام قد انتشر انتشارًا عظيمًا، فدخلت الشام ومصر والعراق وفارس وقسم من شمال أفريقيا في ظل الدولة الإسلامية، وفي مصادر أهل السنة والجماعة، أن عثمان كان منهمكًا في تجهيز جيش من أهل الشام والعراق لغزو أرمينية وأذربيجان، فقدم عليه حذيفة بن اليمان وقال له: «يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب، اختلاف اليهود والنصارى». وكان حذيفة قد راعه اختلاف المجَنَّدين العراقيين والشاميين في قراءة القرآن، كل فريق يعتبر قراءته هي وحدها الصحيحة.بناءً على هذا، أرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر، يطلب منها نسخة الصحف التي جمعت أيام أبي بكر وانتقلت إليها عقب وفاة عمر، لعمل نسخة منها فأرسلتها إليه، ثم أمر زيدًا بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن ينسخوها في المصاحف. وتقول الرواية إن عثمان قال لهم: «إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم». وتضيف الرواية إنه عندما أنهى هؤلاء نسخ الصُّحف التي كانت لدى حفصة في مصحف واحد، رد عثمان الصحف إليها وأرسل إلى جميع الأمصار بنسخة من المصحف الجامع -وقد سمي بالمصحف الإمام- وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق ولم يبق سوى هذا المصحف منذ ذلك العهد، وهي النسخة التي تطبع حاليًا بالرسم العثماني في كل أنحاء العالم الإسلامي
هذا عن وجهة النظر السُّنية الرسمية، أما الشيعة فلم يقبلوا ما ذهب له أهل السنة من أن النبي محمد بعد وفاته ترك القرآن مفرقًا في نتاتيفٍ من خوص النخيل وقطع من الحجارة وعظام أكتاف الإبل، ثم أتى بعض الصحابة وجمعوه، بل قالوا أن الرسول الذي كان حريصًا أشد الحرص على حفظ القرآن هو أول من أمر بجمع القرآن وقام بتنظيم آياته وأثبتها في مواضعها المرادة لله، فهو الذي بدرايته وحفظه أتم السور ورتبها، وأشرف عليها ممليًا ومستكتبًا، آمرًا الناس بكتابته والقيام بحفظه والاشتغال بنسخه، وما أرجأ آيةً نزلت ولا كلمة إلى زمن آت لتكتب، ولا لمقام آخر لتدون، وما اعتمد على أمته في هذا الدور الخطير الذي يحتاج إلى تسديد مباشر من الوحيوقد قام بعض علماء الشيعة الكبار، مثل الإمام أبو القاسم الموسوي الخوئي، باستعراض مختلف الروايات التي ذكرتها كتب السُّنة وغيرها، وفي مقدمتها تلك التي ذُكرت في صحيح البخاري، فقارن بينها وأبرز جوانب الاختلاف والتناقض فيها، ثم عارضها بروايات أخرى –كثير منها من المصادر السُّنية- يرى أنها تشهد بأن القرآن قد تم جمعه في زمن النبي محمد، ومنها ما رواه الطبراني وابن عساكر عن الشعبي أنه قال: «جَمَع القرآن على عهد رسول الله ستة من الأنصار هم: أُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد، وكان مجمع بن جارية قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثًا». ويعترض الخوئي على من قال بأن لفظ "جَمَع" في هذه الروايات معناه حفظ كامل القرآن، ليقرر أنه لا يعقل أن يكون قلة من الأشخاص هم وحدهم الذين كانوا يحفظون القرآن كله زمن النبي محمد. ومن هنا يقرر أن المقصود بجمع القرآن من طرف هؤلاء، هو أخذه من القراء والمواد المكتوب عليها وجمعه في مصحفأما ما فعله عثمان فهو، في نظر الخوئي، أنه قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة مصحف إمام واحد، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالِف ذلك المصحف، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة.
شكرا لتعليقك