pregnancy

الأستاذ / عبد الرحمن معوض - معلم خبير لغة عربية وتربية إسلامية - السنبلاوين - دقهلية


صور من مواقف عمر بن الخطاب.

 صور من مواقف عمر بن الخطاب.


والآن إلى متابعة الحديث عن عملاق الإسلام سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه. 

موقفه من أهله.

حينما أفاء الله على المسلمين في عهده خيراً كثيرا، وامتلأ بيت المال بالمال، أشار عليه نفرٌ من أصحابه أن يقوم بإحصاء الناس، ورصد أسمائهم في ديوان، حتى ينالوا جميعاً رواتبهم السنوية في نظامٍ مُحْكَم، واختير لهذه المهمة عقيل بن أبي طالب ـ أخو سيدنا علي ـ وجبير بن مطعم، ومخرمة بن نوفل، وكانوا أعلم الناس بأنساب قريش، وأكثرهم معرفةً بالمسلمين، جلسوا يدونون الأسماء بادئين ببني هاشم، ثم بآل أبي بكر، ثم ببني عدي آل عمر.

فلما طالع أمير المؤمنين الكتاب رده إليهم، وأمرهم أن يقدموا على آل عمر كثيرين ممَّن هم قبلهم، وذكر عائلتهم، وقال: ضعوا عمر وقومه في آخر الأسماء، وعلم بنو عدي بهذا، فذهبوا إليه راجين أن تظل أسماؤهم في مقدمة الديوان كي ينالوا مناصبهم والمال الوفير، وقالوا له:

ـ ألسنا أهل أمير المؤمنين؟.

ـ فأجابهم عمر: بخٍ بخٍ بني عدي، أردتم أن تأكلوا على ظهري، وأن أهب لكم حسناتي، لا والله، لتأخُذُنَّ مكانكم، ولو جئتم آخر الناس.

هذا موقفه من أهله رضي الله عنه. 

موقفه من الخلافة.

سيدنا عمر رفض أن يجعل ابنه عبد الله، وهو من أصحاب رسول الله، وكان تقياً، ورعاً، قوياً، رفض أن يجعل ابنه عبد الله من الستة الذين رشَّحهم للخلافة، قائلاً:

ـ حَسْبُ آل عمر أن يحاسب منهم واحد وهو عمر، يكفيهم واحد.

ـ فقالوا له: لكن يا أمير المؤمنين إن ولدك عبد الله هو التقي العادل، فهل ذنبه وذنب الناس الذين ستسعدهم ولايته أنه ابن أمير المؤمنين؟!

طالما قيل هذا القول لعمر فيذكر قائليه بأن عبد الله ـ اسمعوا الجواب ـ قبل أن يكون رجل حكم، فإذا استعمل اليوم صالحي أهله، فربما جاء من بعده مَن يستعملون أهليهم ويقولون: هكذا فعل عمر، لجعلها سنةَ من بعده، لهذا قال سيدنا عمر: من استعمل رجلاً لمودةٍ أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.

أنت مثلاً عندك معمل، عندك مدرسة، عندك مستشفى، في لك صهر طبيب مثلاً، عينت هذا الصهر فرضاً رئيس قسم الأمراض الفلانية، وفي هذا القسم مَن هو أكفأ منه، مَن هو أخلص منه، أنت عينت هذا الصهر لأنك حابيته، أو جاملته، مَن فعل هذا فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.

من استعمل رجلاً لمودةٍ أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. 

موقفه أثناء توليه الخلافة.

أجمل خطبة قالها هذا الخليفة العادل حينما تولى الخلافة، يبدو أن بعضهم قال:

 ـ يا أمير المؤمنين إن الناس خافوا منك، خافوا من شدتك.

 ـ فقال هذا الخليفة رضي الله عنه: بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد ورسول الله بين أظهرنا ـ رسول الله رحيم، لطيف، حليم، وعمر شديد، لكن هناك من يوقفه، ويخفف من شدته  ـ ثم اشتد علينا وأبو بكرٍ والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟!

أحياناً يكون الأب والأم في البيت، الأب يشد، والأم ترخي، توازن، إذا ماتت الأم يأخذ الأب دور الأم والأب، لما يشد الأب الأم تخفف، الآن ماتت الأم، يأخذ الأب دور الأم، ثم اشتد علينا وأبو بكرٍ والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه ؟ الآن الأمر كله له، لا يرحم شديد.

ـ فقال سيدنا عمر: آلا مَن قال هذا فقد صدق ـ معه حق ـ فإني كنت مع رسول الله عونه وخادمه، وكان عليه السلام مَن لا يبلغ أحدٌ صفته من اللين ـ كان لين، والرحمة ـ وكان كما قال الله تعالى: 

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾

[ سورة التوبة ]

فكنت بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يغمدني ـ أنا سيف له يغمدني فأغمد، أنا جهاد بيده ـ أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، الحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد ـ أنا كنت سيفًا بيد رسول الله فكان يغمدني أو يستعملني ـ ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر فكان مَن لا تنكرون دعته، وكرمه، ولينه، فكنت خادمه، وعونه، أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفاً مسلولاً حتى يغمدني، أو يدعني فأمضِي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عزَّ وجل وهو عني راضٍ، الحمد لله على ذلك كثيراً وأنا به أسعد.

كنت سيفا لرسول الله يستعملني أو يغمدني، وكنت سيفا لسيدنا الصديق يستعملني أو يغمدني، قال:

 ـ ثم إني قد وليت أمركم أيها الناس ـ أما الآن فهناك وضع ثان ـ فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت ـ الآن أنا سآخذ دور الأم والأب ـ ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي ـ هذه الشدة تبقى شدة على أهل الظلم والتعدي ـ فأما أهل السلامة، والدين، والقصد، فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً، أو يعتدي عليه حتى أضع خده على الأرض، حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف، وأهل الكفاف والتقوى ـ أنا مع أهل العفاف والكفاف والتقوى أضع لهم خدي على الأرض ـ ولكم عليَّ أيها الناس خصالٌ أذكرها لكم فخذوني بها ـ أي حاسبوني عليها ـ لكم علي ألا أجتبي شيئاً من خراجكم، وما أفاء الله عليكم إلا من وجهه ـ أي لكم علي ألا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه ـ ولكم علي إذا وقع في يدي منها شيء ألا يخرج مني إلا في حقه ـ لا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه، ولا أنفقه إلا بحقه ـ ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم ـ أرفع الرواتب، هذا حق لكم، ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم ـ إن شاء الله تعالى، ولكم علي أن أسد ثغوركم ـ أحمي البلاد من العدوان، وهذه من مهمات الحاكم، حماية الحدود من العدوان ـ ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، وإذا غبتم في البعوث ـ يعني في الحروب ـ فأنا أبو العيال حتى ترجعوا، يعني أنا أبٌ لكل طفلٍ من أطفالكم.

لذلك العناية بأبناء من يقاتلون في ساحات القتال هذا عمل عظيم، عمل كبير، وهذا يشجع الإنسان أن يدافع عن وطنه، ويدافع عن أمته.

ـ قال: فاتقوا الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعني أنتم عاونوني، مروني بالمعروف وانهوني عن المنكر.

سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه اختار أحد كبار العلماء، وجعله مستشاراً له، اسمه أيضاً عمر، قال له: أنت اجلس إلى جانبي، وراقب أعمالي وأقوالي، فإذا رأيتني ضللت فأمسكني من تلابيبي، وهزني هزاً شديداً، وقل لي: اتقِ الله يا عمر فإنك ستموت، هذه وظيفتك.

ـ فسيدنا عمر يقول: أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النصيحة فيما ولاني الله من أمركم.

هذه خطبةٌ افتتح بها ولايته على المسلمين.

  موقفه من أهل الشام . 


حين زار الشام جيء له بطعامٍ طيِّب ـ معنى هذا أن أهل الشام من زمان أكلهم طيب، هكذا يظهر ـ مختلفٍ ألوانه، وبدلاً من أن يقبل عليه، وينعم بمذاقه رمقه بعينين باكيتين، وقال: كل هذا لنا، وقد مات إخواننا الفقراء لا يشبعون من خبز الشعير؟! هؤلاء الصحابة الذين ماتوا في بدر وفي أحد والخندق تألم من أجلهم، كل هذا لنا وإخواننا ماتوا فقراء لم يشبعوا من خبز الشعير؟!. 

رحمته مع الناس.

اسمعوا هذه القصة:

قدم المدينة بعض التجار في إحدى الأمسيات، وخيَّموا عند مشارفها، فاصطحب أمير المؤمنين عبد الرحمن بن عوف ليتفقد أمر القافلة، سمع بقافلة جاءت إلى المدينة، وخيمت في ظاهرها، فقال لعبد الرحمن بن عوف: اذهب بنا لنتفقد هذه القافلة.

وكان الليل قد تصَرَّم، انقضى جزءٌ منه، واقترب الهزيع الأخير منه، وعند القافلة النائمة اتخذ عمر وصاحبه مجلساً على مقرُبةٍ منها، وقال عمر لعبد الرحمن: فلنمضِ بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا، الجماعة نائمون كلهم، قال له: اقعد نحرس الضيوف، يعني من ذئب، لهم غنم، وهو مخيِّمون، قال له: فلنمضِ بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا، بإذن الله طبعاً.

وإذا هما جالسان سمع صوت بكاء صبي بالقافلة، فانتبه عمر وصمت، وانتظر أن يكف الصبي عن بكائه، ولكنه تمادى فيه، فمضى يسرع صوبه، وحينما اقترب منه سمع أمه تنهنهه، أي تسكته، ولكن لا ترضعه، قال لها: اتقِ الله، وأحسني إلى صبيكِ، ثم عاد إلى مكانه، وبعد حين عاود الصبي البكاء، فهرول نحوه عمر، ونادى أمه: قلت لك اتقِ الله، وأحسني إلى صبيك، وعاد إلى مجلسه، بيد أنه لم يكد يستقر حتى زلزله مرةً أخرى بكاء الصبي، فذهب إلى أمه وقال لها:

 ـ ويحك إني لأراك أمّ سوء ـ أنت أم سيئة ـ ما لصبيك لا يقر له قرار؟ أي ما ترضعينه؟.

 ـ فقالت وهي لا تعرف من تخاطب، قالت: يا عبد الله قد أضجرتني، يعني هلكتني حل عني ـ بهذا المعنى ـ لقد أضجرتني إني أحمله على الفطام فيأبى، أنا أفطمه اليوم.

 ـ سألها عمر: ولمَ تحمليه على الفطام؟

 ـ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم، لا يعطي معاشًا، تعويضًا عائليًّا إلا للفطيم.

ـ قال وأنفاسه تتواثب، بدأ يلهث: وكم له من العمر؟.

ـ قالت: بضعة أشهر.

ـ قال: ويحك لا تعجليه، أرضعيه.

يقول صاحبه عبد الرحمن بن عوف: فصلى بنا الفجر يومئذٍ، وما يستبين الناس قراءته ـ يقرأ ويبكي بالصلاة، ما فهموا ما هي الآيات الناس، ماذا قرأ ما فهموا، يقرأ ويبكي ـ من غلبة البكاء، فلما سلّم قال: يا بؤساً لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين.

اعتبر حاله قاتل، لأنه أعطى التعويض العائلي للفطيم، فصارت الأمهات حتى يتعجلن التعويض يفطمن أولادهن في وقت مبكر قبل أن يتم الرضاعة فقال:

يا بؤساً لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر منادياً ينادي في المدينة: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض من بيت المال لكل مولودٍ في الإسلام، ليس لكل واحد فطم، ولكن لكل واحد ولد، ثم فرض هذا إلى جميع ولاته في الأمصار، عممه على أنحاء البلاد الإسلامية. 

موقفه عام الرماد.

في عام الرمادة سمع عن جماعةٍ في أقصى المدينة قد نزل بهم الضر أكثر مما نزل بأهل المدينة كلها، فيحمل فوق ظهره جرابين من دقيق، ويحمل خادمه أسلم قربةً مملوءةً زيتاً، ثم يهرولان إلى هناك يحملان النجدة والغوث، وعندما يصلان القوم يطرح أمير المؤمنين بردائه، ويطهو بنفسه طعامهم حتى يشبعوا، ثم يرسل خادمه ليعود إليه بإبلٍ يحملهم على ظهورها إلى دخل المدينة، حتى يكونوا بقربٍ منهم.

وكان يقول: يا علي، إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس، ويا عثمان، إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ويا سعد، إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل أقاربك على رقاب الناس.

وفي العام الذي لقي الله فيه كان على موعدٍ مع نفسه أن يطوف بجميع الأمصار، ليتفقد أحوال الناس، ويبلو أخبارهم، ولقد قال يوماً لأصحابه: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أمَا إنّ ولاتهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إلي ـ هم لا يصِلون، وولاتهم لا ترفع أمورهم إلي ـ أسير إلى الشام فأقيم شهرين، وبالجزيرة شهرين، وبمصر شهرين، وبالبحرين شهرين، وبالكوفة شهرين، وبالبصرة شهرين، والله لنِعم الحول هذا.

أي يتفقد بنفسه بشكل ميداني أنحاء المملكة، أو أنحاء البلاد الإسلامية، ليتعرف عن كسب على أحوال المسلمين.

مرة سأل أصحابه ـ امتحنهم ـ: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ـ انتقيت أفضل واحد فيكم ـ ثم أمرته بالعدل، أكان هذا يبرئني من الله عزَّ وجل؟.

ـ فقال أصحابه: نعم.

 ـ قال: لا ـ إذا استعملت أفضل واحد، أطهر واحد، أنقى واحد، وأمرته بالعدل تنتهي مسؤوليتي أنا، قالوا طبعاً تنتهي، قالوا: نعم، قال: كلا حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لم يعمل ؟ لاَ تبرؤ ذمتي من الله عزَّ وجل حتى أتابع ما أمرته به، هل فعل هذا أم لم يفعل ؟ أيما عاملٍ لي ظلم أحداً، وبلغتني مظلمته فلم أغيرها فكأنما ظلمته أنا.

أي موظف عندي يظلم مظلمةً بلغتني فلم أغيرها فكأنما ظلمته أنا، هذا كان فهمه للمسؤولية. 

موقفه من الولاة.

آخر قاعدة لسيدنا عمر، هذه القاعدة أخذها عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إنا والله لا نولي هذا الأمر أحداً يسأله، أو يحرص عليه، أي إنسيان يسأل أن يتولى أمراً عندئذٍ لا نوليه، مادام طلب الولاية معنى هذا أنه راغبٌ فيها، ليس عالماً بما فيها من مسؤوليات، إذاً هو ليس أهلاً بها.

ذات يومٍ أسرّ في نفسه اختيار أحد أصحابه ليجعله والياً على أحد الأقاليم، ولو صبر هذا الصحابي بضع ساعاتٍ لاستدعاه عمر يقلده هذا المنصب، ولكن أخانا بادر الأمور التي لم يكن يعرف عنها شيئاً، وذهب إلى عمر يسأله أن يوليه هذا المنصب، ويبتسم عمر لحكمة المقادير، ويقول: قد كنا أردناك لذلك، ولكن من يطلب هذا الأمر لا يعان عليه، ولا يجاب إليه، ثم صرفه وولى.

اختاره فلما طلب منه ذلك غير قراره.

مرة اختار أحد الولاة قال له: إني لم أستعملك على دماء المسلمين، ولا على أعراضهم، ولكني استعملتك لتقيم فيهم الصلاة، وتقسم بينهم، وتحكم فيهم بالعدل، ثم يعُدُّ له عداً النواهي التي يجب عليه أن يتجنبها: لا تركب دابةً مُطَهَّمَة ـ يعني فخمة ـ لا تلبس ثوباً رقيقاً، لا تأكل طعاماً غاليًا، لا تغلق بابك دون حوائج الناس، كن في حياتك خشناً، وافتح بابك للناس جميعاً.

مرة قال: دلوني على رجلٍ أكِلُ إليه أمراً يهمني؟.

 ـ فقالوا: فلان.

 ـ قال: لا حاجة لنا فيه.

 ـ قالوا: فمن تريد؟.

 ـ قال: أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميراً عليهم، بدا وكأنه أميرهم ـ من شدة عطفه واهتمامه، وفطنته، وحكمته، وهو ليس أمير بدا وكأنه أميرٌ عليهم ـ وإذا كان فيهم وهو أميرهم بدا وكأنه واحدٌ منهم.

إذا معين أمير بدا وكأنه واحد منهم، وإذا ما كان فيهم أمير بدا وكأنه أميرهم، هذا شرط صعب جداً.

في موسم الحج، وعلى ملأٍ من الأعداد الهائلة من حجاج المسلمين القادمين من كل بلد، جمع عماله وولاته جميعاً، ووقف فيهم خطيباً قال:

أيها الناس، إني والله لا أبعث عمَّالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فُعِل به سوى ذلك فليرفعه إليّ، فو الذي نفسي بيده لأمكننه من القصاص.

أنا عينتهم ولاة كي يعلموكم دينكم وسنة رسولكم، أما أن يضربوا جلودكم، ويأكلوا أموالكم فليس هذا من مهمته.

يظهر أن سيدنا عمرو بن العاص وجد أن هذا الكلام لا يناسبه، أن يثير الناس على الولاة، ضعَّف هيبة الولاة، فقال له: الذي رأى في هذا الحض خطراً على هيبة الولادة، قال له:

 ـ أرأيت إن كان رجل من المسلمين والياً على رعيةٍ، فأدَّب بعضهم أتقتص منه؟.

 ـ عمر: إي والذي نفسي بيده لأفعلن، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص بنفسه ويقول: 

من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتد منه

من مجمع الزوائدعن الفضل بن العباس بن عبدالمطلب

ألا يكفي قدوة لنا؟.

والحديث عنه يطول ـ وقصته في هذا الكتاب أطول قصة، إن شاء الله في دروس قادمة نتابع الحديث.

لكن البارحة قرأت في كتاب آخر كلمة أثارت كل مشاعري، قال: خطب امرأةً وهو أمير المؤمنين فرفضت، فهل سمعتم في حياتكم أمير مؤمنين يخطب امرأة فترفض؟ فلما سئلت: لماذا لم تقبلي؟ قالت: إنه في حياته خشن، بيته ليس فيه شيء، متقشف، وهو علينا شديد.

فقال الكاتب: إن رفض هذه المرأة الزواج من أمير المؤمنين هي أكبر شهادةٍ ترفعه إلى الأوج، في حين أن مئات النساء لو تهافتن عليه ما كانت كل هذه الحوادث لتكون شهادة حسن سلوك، أما سيدنا عمر يخطب امرأة، وهو خليفة المسلمين، فتأبى، لا تريد، ويحك أمير المؤمنين !! قالت: إنه رأى آخرته فذهل بها عن دنياه، وإنه يرى ربه، وكأنه يحاسبه.

له صفة عجيبة، فأن ترفض امرأةٌ الزواج من عمر، هذه شهادةٌ وأية شهادة.

على كلٍ بهذه القصص تحيى القلوب، بهذه القصص تتعطر المجالس، فإذا كان الإنسان أبًا فليقتدِ بسيدنا عمر، إذا كان معلمًا، إذا رفعه الله على عشرة أشخاص بمعمل، بدائرة، بمستشفى، كان طبيبًا، كان عنده مرضى، عنده موظفون، يقتدي بسيدنا عمر في أخلاقه، في تواضعه، في مساواته للناس، في اعترافه بخطئه، في قبوله للنصيحة، في قبوله للاعتراض والنقد، في أن يكون مع الناس سواءً بسواء، هذه كلها أولاً: نتأثر بها، وثانياً: يجب أن نقتدي بها.

شكرا لتعليقك