من التتار؟
ظهرت دولة التتار في سنة 603هـ/ 1206م
تقريبًا، وكان ظهورها الأول في (منغوليا) في شمال الصين، وكان أول زعمائها هو
جنكيزخان. و(جنكيزخان) كلمة تعني: قاهر العالم،
أو ملك ملوك العالم، أو القوي، بحسب الترجمات المختلفة للغة المنغولية، واسمه
الأصلي (تيموجين)[1]. وكان رجلاً سفّاكًا للدماء، وكان أيضًا قائدًا عسكريًّا شديد
البأس، وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله، وبدأ في التوسع تدريجيًّا في
المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتسعت مملكته حتى بلغت حدودها من كوريا شرقًا إلى
حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غربًا، ومن سهول سيبريا شمالاً إلى بحر الصين
جنوبًا[2]. أي أنها كانت تضم من دول العالم حاليًّا: الصين، ومنغوليا،
وفيتنام، وكوريا، وتايلاند، وأجزاء من سيبيريا، إلى جانب مملكة لاوس، وميانمار،
ونيبال، وبوتان ويطلق اسم التتار -وكذلك المغول- على الأقوام الذين نشئوا في شمال الصين
في صحراء (جوبي)، وإن كان التتار هم أصل القبائل بهذه المنطقة. ومن التتار جاءت
قبائل أخرى مثل قبيلة المغول، وقبائل الترك والسلاجقة، وغيرها. وعندما سيطر المغول
-الذين منهم جنكيزخان- على هذه المنطقة أطلق اسم (المغول) على هذه القبائل كلها. وكان
للتتار ديانةٌ عجيبة، هي خليط من أديان مختلفة، فقد جمع جنكيزخان بعض الشرائع من
الإسلام، والبعض من المسيحية، والبعض من البوذية، وأضاف من عنده شرائع أخرى، وأخرج
لهم في النهاية كتابًا جعله كالدستور للتتار، وسمَّى هذا الكتاب بـ (الياسة) أو
(الياسك) أو (الياسق) [
الهجمة التترية الأولى
فكر جنكيزخان في أن أفضل طريقة لإسقاط
الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان؛ لذا
فكَّر جنكيزخان في خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية،
التي تُعرف في ذلك الوقت بالدولة الخوارزمية، وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم
إسلامية مهمَّة مثل: أفغانستان، وأوزبكستان، والتركمنستان، وكازاخستان، وطاجكستان،
وباكستان، وأجزاء من إيران، وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة أورجندة (في
تركمنستان حاليًّا). كان جنكيزخان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم (محمد بن خوارزم شاه) على حسن
الجوار، ومع ذلك فلم يكن جنكيزخان من أولئك الذين يحترمون اتفاقياتهم؛ لذا لا مانع
من نقض العهد، وتمزيق الاتفاقيات السابقة، وهي سُنَّة في أهل الباطل.. {وَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
وبدأ الإعصار التتري الرهيب على بلاد
المسلمين!
دأت بالهجمة التترية الأولى على دولة
خوارزم شاه؛ جاء جنكيزخان بجيشه الكبير لغزو خوارزم شاه، وخرج له (محمد بن خوارزم
شاه) بجيشه أيضًا، والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرت أربعة أيام متصلة، وذلك
شرق نهر سيحون (وهو يعرف الآن بنهر سرداريا، ويقع في دولة كازاخستان المسلمة)،
وقُتِل من الفريقين خلق كثير، لقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون
ألفًا، ومات من التتار أضعاف ذلك، ثم تحاجز الفريقان، وانسحب (محمد بن خوارزم شاه)
بجيشه؛ لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة، وذهب ليحصِّن مدنه الكبرى في مملكته
الواسعة، وخاصةً العاصمة أورجندة. كان هذا اللقاء الدامي في عام 616هـ/ 1219م
انشغل (محمد بن خوارزم شاه) في تحضير
الجيوش من أطراف دولته، ولكن كان هناك خطأٌ واضحٌ في إعداده، وهو أنه مع اهتمامه
بتحصين العاصمة أورجندة إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية من دولته دون حماية
كافية! فلقد اهتم محمد بن خوارزم بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، وتهاون في تأمين
شعبه، وحافظ جدًّا على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدرات وأملاك
شعبه.
جهَّز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع في
اختراق كل إقليم كازاخستان الكبير، ووصل في تقدُّمه إلى مدينة بُخارَى المسلمة (في
دولة أوزبكستان الآن)، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة في سنة 616هـ/ 1219م، ثم طلب
أهلها الأمان من جنكيزخان قبل التسليم؛ فأعطاهم إياه. وفتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيزخان إلى المدينة
الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلاً في أول دخوله خديعةً لهم؛ وذلك حتى يتمكن من
السيطرة على المجاهدين بالقلعوفعلاً بدأ جنكيزخان بحصار القلعة، بل أمر أهل
المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها،
فأطاعوه وفعلوا ذلك!! وحاصر القلعة عشرة أيام، ثم فتحها قسرًا، ولما دخل إليها
قاتل من فيها حتى قتلهم جميعًا!! ولم يبق بمدينة بخارى مجاهدون[ ة وهنا بدأ جنكيزخان
في خيانة عهده، يقول ابن كثير: "فقتلوا من
أهلها خلقًا لا يعلمهم إلا الله
، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهنَّ الفواحش بحضرة أهليهن"[6]. وهكذا هلكت بُخارَى في سنة 616هـ/ 1219م!!

ولكن كانت هذه أولى صفحات القصة، كانت
بداية الطوفان وبداية الإعصار، فقد دخلت سنة 617هـ/ 1220م، وفيها ارتكب التتار من
الفظائع ما تعجز الأقلام عن وصفه؛ فقد كرروا ما فعلوه في بخارى في عدة مدن إسلامية
عظيمة أخرى مثل سمرقند، وقد استقر فيها السفاح جنكيزخان بعدما أعجبته، وقرَّر أن
يقضي على محمد بن خوارزم شاه ليتفرَّغ لتحقيق مخططه في احتلال بلاد الخلافة
الإسلامية كافة؛ فأرسل كتيبة مكوَّنة من عشرين ألف جندي -وهي قوة صغيرة بالنسبة
لجيوش التتار- تطارده في كل مكان، وأخذ خوارزم شاه يفرُّ من وجهها في كل مكان
يصلون إليه فيه[7].
وصل الزعيم محمد بن خوارزم في فراره إلى
جزيرة في وسط بحر قزوين، وهناك رضي بالبقاء فيها في قلعة في فقرٍ شديد وحياة
صعبة، وهو الملك الذي ملك بلادًا شاسعة، وأموالاً لا تُعَدُّ، ولكن رضي بذلك وما هي إلا
أيام، حتى مات محمد بن خوارزم شاه في هذه الجزيرة في داخل القلعة[8] وحيدًا طريدًا شريدًا فقيرًا، حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنوه به، فكفنوه في
فراش كان ينام عليه!!
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ
وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}لكي يفرَّ من الموت!
كانت المسافة بين الفرقة التترية
الصغيرة وبين القوة الرئيسية لجنكيزخان في (سمرقند) تزيد على ستمائة وخمسين كيلو
مترًا، كلها أراضٍ إسلامية تُكِنُّ العداء الشديد للتتار، ومع ذلك انطلقت تلك
الفرقة وسط جموع المسلمين في تلك البلاد الذين يبلغون الملايين، انطلقوا يقتلون
ويأسرون، ويستولون على البلاد والمدن الإسلامية؛ فدخلوا مازندران (في إيران)، ثم
الرَّيِّ (مدينة إيرانية كبيرة كذلك). وفي الطريق من مازندران إلى الري وجد التتار
في طريقهم والدته ونساءه ومعهم الأموال الغزيرة والذخائر النفيسة التي لم يُسمع
بمثلها، فأخذوا كل ذلك سبيًا وغنيمة، وأرسلوه من فورهم إلى جنكيزخان المتمركز في
(سمرقند) آنذاك، ثم انطلقوا يكررون تلك الأفاعيل في المدن المحيطة[
مرَّ التتار بمدينة البيلقان؛ فوضعوا
فيها السيف في رمضان 618هـ/ 1221م، ثم اتجهوا إلى مدينة كنجة؛ فلجأ أهلها إلى سلاح
الجهاد، واستعدوا له كما فعلت تبريز؛ فألقى الله
في قلوب التتار الرعب منهم؛
فتركوا البلد على حالها ورحلوا عنها، واتجهوا لغزو داغستان والشيشان، وقاموا
كعادتهم بتدمير كل شيء في هذه البلاد، وقتلوا معظم من وجدوه في طريقهم، وكانت أشد
المدن معاناة من التتار هي مدينة شَمَاخِي المسلمة (في داغستان الآن) [

مرت السنوات والجرئم التترية تزيد حتى
جاءت سنة 622هـ/ 1225م، وفيها خفَّت قبضة التتار؛ فظهر من جديد جلال الدين بن
خوارزم شاه، الذي ذهب يتحالف مع الأمير سعد الدين بن دكلا ضد أخيه غياث الدين بن
خوارزم شاه!!
وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من
جنوبه إلى الشمال محاربًا أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريبًا
من الخلافة العباسية. وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خوارزم والخلافة العباسية
متوترة جدًّا، ووجد جلال الدين في نفسه قوة، ووجد في الخلافة ضعفًا، فأعلن الحرب
على الخلافة العباسية، هذا وجيوش التتار قابعة في شرق إيران!! ولا عجب؛ فقد كان
جُلُّ الزعماء في تلك الآونة مصابين بالحول السياسي. ودخل جلال الدين بجيشه إلى
البصرة، وحاصرها مدةَ شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمر قريبًا من بغداد عاصمة
الخلافة العباسية، وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه؛ فحصن المدينة
وجهَّز الجيوش لدفع جلال الدين، ولكن لم يكتف بذلك بل ارتكب فعلاً شنيعًا مقززًا؛
إذ إنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين!! [23] سبحان الله!
كن التتار كانوا مشغولين ببسط سيطرتهم
في المناطق الشاسعة التي احتلوها، فلم يحدث بينهم وبين جلال الدين قتال إلا في
أواخر سنة 622هـ/ 1225م، واستثمر جلال الدين هذه الفترة في بسط سيطرته على المناطق
المحيطة ببغداد، ثم شمال العراق ثم منطقة شمال فارس، وبدأ يدخل في أذربيجان وما
حولها من أقاليم إسلامية
ثم بسط جلال الدين سيطرته على مملكة
الكرج النصرانية بعد أن أوقع بهم هزيمة فادحة، واصطلح مع أخيه غياث الدين صلحًا
مؤقتًا، وأدخله في جيشه، ولكن كان كل واحد منهما على حذر من الآخر
وبذلك بلغ سلطان جلال الدين من جنوب
فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين، وهي وإن كانت منطقة كبيرة إلا أنها مليئة
بالقلاقل والاضطرابات، إضافةً إلى العداءات التي أورثها جلال الدين قلوب كل
الأمراء في الأقاليم المحيطة بسلطانه بما فيهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله،
وسياسة العداوات والمكائد والاضطرابات هي السياسة التي ورثها جلال الدين عن أبيه
محمد بن خوارزم، وتحدثنا عنها من قبلُ، ولم تأت إلا بالويلات على الأمة، وليت
المسلمين يفقهون
وجاءت سنة 624هـ/ 1226م تحمل معها خبر
موت جنكيزخان الطاغية الذي بنى خلال فترة حكمه مملكة واسعة من كوريا في الشرق إلى
فارس في الغرب، بناها على جماجم البشر وأشلائهم، وخاصةً من المسلمين، وقد مات عن
اثنين وسبعين عامًا
وبموت جنكيزخان هدأت الأمور نسبيًّا في
هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين
إلى وسط إيران تقريبًا، بينما كان جلال
الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران والمناطق الغربية من بحر قزوين،
وكأن كل طرف قد رضي بما يملك، وآثر الاحتفاظ بما يعتقد أنه حق له.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء