pregnancy

الأستاذ / عبد الرحمن معوض - معلم خبير لغة عربية وتربية إسلامية - السنبلاوين - دقهلية


كتاب البلاغة السهلة 39 الغلو فى البلاغة

 من دروس علم البديع :

 26  -   الغلو 

الغلو في أصل الوضع اللغوي :

مجاوزة الحد والقدر في كل شيء والإفراط فيه  وهو مشتق من المغالاة، ومن غلوة السهم بفتح الغين وسكون اللام، وهي مدى رميته، يقال: غاليت فلانا مغالاة وغلاء بكسر الغين، إذا اختبرتما أيكما أبعد غلوة سهم
وقد عرفنا مما سبق أن المبالغة بمعنى التبليغ هي إمكان الوصف المدعى عقلا وعادة، وأن الإغراق هو إمكان الوصف المدعى عقلا لا عادة
أما الغلو في اصطلاح البديعيين فهو: امتناع الوصف المدعى عقلا وعادة  وعلى هذا فإذا كان الإغراق فوق المبالغة بمعنى التبليغ في تجاوز الحد والإفراط في الصفة المدعاة، فإن الغلو فوق المبالغة والإغراق من هذه الناحية
ولعل ابن رشيق القيرواني   من أوائل من توسعوا في بحث  الغلو ، فقد تناوله في كتابه العمدة من جوانب متعددة ألّم فيها ببعض آراء سابقيه ومعاصريه وعلق عليها بما عنّ له شخصيا من آراء وأفكار
فهو أولا يعارض من يرى أن فضيلة الشاعر إنما هي في معرفته بوجوه الإغراق والغلو، ولا يرى ذلك إلا محالا،
لمخالفته الحقيقة وخروجه عن الواجب والمتعارف
وهو يوافق الحذاق القائلين:  خير الكلام الحقائق، فإن لم تكن فما قاربها وناسبها، وأنشد المبرد قول الأعشى :
فلو أن ما أبقين مني معلقا          بعود ثمام ما تأوّد عودها   

فقال: هذا متجاوز، وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذ شبّه، وأحسن منه ما أصاب الحقيقة فيه
وأصح الكلام عند ابن رشيق ما قام عليه الدليل، وثبت فيه الشاهد من كتاب الله، فقد قرن الغلو فيه بالخروج عن الحق، فقال جلّ من قائل: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ
كما أتى على تعريف قدامة  للغلو  وهو: تجاوز في نعت ما للشيء أن يكون عليه، وليس خارجا عن طباعه. وعلى هذا تأويل أصحاب التفسير قوله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، أي: كادت  
كذلك أورد رأي القاضي الجرجاني   في الإفراط، وخلاصته أن الإفراط مذهب عام في المحدثين وموجود كذلك لدى الأوائل، وأن الناس مختلفون فيه: من مستحسن قابل، ومستقبح راد، وأن له رسوما متى وقف الشاعر عندها، ولم يتجاوز بالوصف حدها سلم، ومتى تجاوزها اتسعت له الغاية، وأدته الحال إلى الإحالة، وإنما الإحالة نتيجة الإفراط، وشعبة من الإغراق

وللحاتمي   في الغلو رأي ذكره ابن رشيق وهو:  وجدت العلماء بالشعر يعيبون على الشاعر أبيات الغلو والإغراق، ويختلفون في استحسانها واستهجانها، ويعجب بعض منهم بها، وذلك على حسب ما يوافق طباعه واختياره، ويرى أنها من إبداع الشاعر الذي يوجب الفضيلة له

  فيقولون: أحسن الشعر أكذبه، وأن الغلو إنما يراد به المبالغة والإفراط، وقالوا: إذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج عن الموجود ويدخل في باب المعدوم فإنما يريد به المثل وبلوغ الغاية في النعت، واحتجوا بقول النابغة وقد سئل: من أشعر الناس؟

 فقال: من استجيد كذبه وأضحك رديئه
وقد طعن قوم على هذا المذهب بمنافاته الحقيقة، وأنه لا يصح عند التأمل والفكرة
ويعلق ابن رشيق على زعم القائلين بأن أبا تمام هو الذي توسع في باب الغلو وتبعه الناس بعد فيقول:  وأين أبو تمام مما نحن فيه؟

فإذا صرت إلى أبي الطيب- المتنبي- صرت إلى أكثر الناس غلوا، وأبعدهم فيه همة، حتى لو قدر ما أخلى منه بيتا واحدا، وحتى تبلغ به الحال إلى ما هو عنه غنيّ، وله في غيره مندوحة كقوله :
                يترشفن من فمي رشفات         هنّ فيه أحلى من التوحيد
وإن كان له في هذا تأويل ومخرج بجعله التوحيد غاية المثل في الحلاوة بفيه

وإن كان له في هذا تأويل ومخرج بجعله التوحيد غاية المثل في الحلاوة بفيه   

 بعد هذه المقتبسات من كتاب العمدة لا بن رشيق والتي تعرض فيها للغلو من بعض الجوانب نذكر أن رجال البديع يقسمون الغلو قسمين: مقبول وغير مقبول

 :  1- فالغلو الحسن المقبول عندهم  

هو ما دخل عليه أو اقترن به أداة من الأدوات التي تقربه إلى الصحة والقبول من نحو     للاحتمال، و  لو  و  لولا  للامتناع، و  كأن  للتشبيه، و  يكاد  للمقاربة، وما أشبه ذلك

ومن أمثلة الغلو الحسن المقبول لاقترانه بأداة من أدوات التقريب قوله تعالى  :

   "   يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار "

  ، فإن إضاءة الزيت من غير مس نار مستحيلة عقلا، ولكن لفظة  يكاد  قربته فصار مقبولا. ولهذا يجب على ناظم الغلو أن يسبكه في قوالب التخيلات الحسنة التي يدعو العقل إلى قبولها في أول وهلة

ومن أمثلة الغلو المقبول أيضا قول المعري  :

 

تكاد قسيه من غير رام                تمكن من قلوبهم النبالا

تكاد سيوفه من غير سل             تجد إلى رقابهم انسلالا

 

فالقسي التي تسدد نبالها إلى القلوب من غير رام، والسيوف التي تنسل إلى الرقاب فتعمل فيها من غير أن تسل من أغمادها أمران مستحيلان عقلا وعادة، ولكن الذي حسن هذا الغلو وجعله مقبولا هو دخول لفظة  تكاد  التي صيرت ما بعدها قريب الوقوع لا واقعا فعلا كما كان الشأن قبل تدخلها

وعلى هذا النحو يمكن تفسير الغلو الحسن المقبول الذي دخلت عليه يكاد

:  في قول ابن حمديس يصف فرسا

 

ويكاد يخرج سرعة من ظله              لو كان يرغب في فراق رفيق

 

وقول الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه :

 

يكاد يمسكه عرفان راحته            ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

وقول أبي صخر : 

تكاد يدي تندي إذا ما لمستها          وينبت في أطرافها الورق النضر

 

ومن الغلو الحسن المقبول لدخول أداة الامتناع «لو» عليه قول البحتري في مدح الخليفة المتوكل :

ولو أن مشتاقا تكلف فوق ما         في وسعه لسعى إليه المنبر

 

فسعى المنبر إلى الخليفة الممدوح تعبيرا عن اشتياقه له عند ما يعلوه ليخطب في الناس إفراط في الغلو قربه إلى الصحة والقبول لفظة «لو»

ومن هذا الضرب من الغلو المقبول قول أبي الطيب في ممدوحه :

 

لو تعقل الشجر التي قابلتها          مدت محييه إليك الأغصنا

 

فمد الأشجار أغصانها تحية للممدوح عند مروره بها أمر مستحيل لامتناعه عقلا وعادة، لكن الذي حسن هذا الغلو وجعله مقبولا هو دخول  لو  التي أفادت امتناع وقوع هذا الأمر المستحيل لامتناع أن تعقل الأشجار

        كتاب البلاغة السهلة                                                           للأستاذ / عبدالرحمن معوض

والمتنبي كما يقول ابن رشيق من أكثر الشعراء ولعا بالغلو وأبعدهم فيه همة، حتى لو قدر ما أخلى منه بيتا واحدا. ومما جاء عنده أيضا من هذا الغلو المقبول لدخول     عليه،    مخاطبا طللا   : 

لو كنت تنطق قلت معتذرا                بي غير ما بك أيها الرجل

وقوله مفتخرا :

ولو برز الزمان إلي شخصا           لخضب شعر مفرقه حسامي

وقوله في قبيلة الممدوح :

 

ولو يممتهم في الحشر تجدو             لأعطوك الذي صلوا وصاموا

 

ومن الغلو المقبول والأداة المقربة إلى الصحة  لولا  قول أبي العلاء المعري يصف سيف ممدوحه :

يذيب الرعب منه كل عضب            فلولا الغمد يمسكه لسالا

 

فالمعنى هنا أولا : أن سيفك أيها الممدوح تهابه السيوف وتصاب بالرعب والفزع منه كما يهابك الرجال ويصابون بالرعب والفزع منك ، وأشد ما يجوز على السيف أن يسيل حديده ولو لا الغمد يمسكه لظهر سيلانه

فذوبان كل سيف إلى حد السيلان في غمده بباعث الرعب من سيف الممدوح أمر ممتنع عقلا وعادة. ولكن تدخّل  لو لا  التي أفادت امتناع سيلان هذا السيف الذائب لوجود غمده الذي يمسكه عن السيلان قد جعلت هذا الغلو المفرط في المعنى مقبولا

 

 :  2ـ أما الغلو غير المقبول

 فيتمثل في المعنى الذي يمتنع عقلا وعادة مع خلوه من أدوات التقريب التي تدنيه إلى الصحة والقبول. فمن أمثلة ذلك قول المتنبي مادحا :

 

 

فتى ألف جزء رأيه في زمانه         أقل جزيئ بعضه الرأي أجمع

 

فعلى ما في البيت من بعض التعقيد الناشئ عن التقديم والتأخير الذي اقتضاه الوزن يريد المتنبي أن يقول  

إن هذا الممدوح فتى رأيه في أحوال زمانه بقدر ألف جزء، وأقل جزء من هذه الأجزاء يعادل جزء منه كل ما لدى الناس من الرأي

فوجود إنسان رأيه على النحو الذي صوره الشاعر ممتنع عقلا وعادة، وهو غلو غث لا يدعو إلى الإعجاب به بل إلى التعجب منه

ومنه أيضا مادحا :

 

ونفس دون مطلبها الثريا            وكف دونها فيض البحار

 

ومنه قول أبي نواس في وصف الخمر 

 

            إلى موضع الأسرار قلت لها  قفى            فلما شربناها ودب دبيبها       

مخافة أن يسطو علي شعاعها ... فيطلع ندماني على سري الخفي

 

فسطوة شعاع الخمر عليه بحيث يصير جسمه شفافا يظهر لنديمه ما في باطنه لا يمكن عقلا ولا عادة، فهو غلو مفرط

 

ومراتب القبول في الغلو تتفاوت إلى الحد الذي تؤول بقائلها إلى الكفر، فمن ذلك قول أبي نواس مادحا :

 

وأخفت أهل الشرك حتى أنه        لتخافك النطف التي لم تخلق

 

وهذا كما لا يخفى أمر مستحيل، لأن قيام العرض الموجود وهو الخوف بالمعدوم وهي النطف التي لم تخلق لا يمكن عقلا ولا عادة

ومنه قول ابن هانئ الأندلسي في مطلع قصيدة يمدح بها المعز لدين الله الفاطمي

ما شئت لا ما شاءت الأقدار           فاحكم فأنت الواحد القهار

فادعاء أن مشيئة المعز فوق مشيئة الأقدار وأنه هو الواحد القهار غلو يوهم الكفر

ومنه قول المتنبي في مدح سيف الدولة :

تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى        إلى قول قوم أنت بالغيب عالم

فعلم الغيب مما استأثر الله به، فالزعم بأن إنسانا كائنا من كان يعلم الغيب إفراط في الغلو يؤول بقائله إلى الكفر

 

 

 

 

 

 

 

-----------------------------------------------------------------------------------

        كتاب البلاغة السهلة                                                               
شكرا لتعليقك