من دروس علم المعانى :
13 - الجملة
وبناء العبارة
أشرنا فيما سبق إلى
علم المعاني بأنه العلم الذي يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى
الحال وهذا يعني أنه العلم الذي يبحث في
الأساليب والجمل العربية باعتبار إفادتها لمعان زائدة على أصل المعنى.
والوصول إلى مزيد من
المعرفة بالمعاني الزائدة يستدعي النظر في الجملة من حيث أجزاؤها وأحوال هذه
الأجزاء وقيودها، واقترانها بغيرها عن طريق الوصل أو الفصل، وذاك هو موضوع هذا
البحث.
أجزاء الجملة :
عرفنا من قبل أن لكل
جملة خبرية كانت أو إنشائية ركنين هما :
أ- المسند :
ويسمى المحكوم به أو
المخبر به، والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو ما في معناه من نحو المصدر
واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفصيل والظرف.
ب-
المسند إليه :
ويسمى المحكوم عليه أو المخبر عنه والنسبة التي
بين المسند والمسند إليه تسمى الإسناد.
ومواضيع المسند هي :
١ - الفعل : نحو: يأبى من قولك: يأبى العربي الضيم .
٢ - اسم الفعل : نحو : شتان بمعنى : افترق، وأوه بمعنى : أتوجع، وبله بمعنى :
دع أو اترك.
٣ - خبر المبتدأ : نحو: عمل من قولك : الحياة عمل.
٤ - المبتدأ المكتفي بمرفوعه : نحو: قائم من قولك: أقائم أنت بواجبك ؟
٥ - ما أصله خبر المبتدأ : ويشمل
خبر كان وأخواتها نحو معتدلا من قولك:
صار الجو معتدلا، وخبر إن وأخواتها نحو فضيلة من قولك : إن الصدق فضيلة، والمفعول
الثاني للأفعال التي تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر نحو: نادرا من قولك: وجدت الوفاء نادرا، والمفعول الثالث للأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل نحو محققا
من قولك: أعلمت المجتهد النجاح محققا.
٦ - المصدر النائب عن فعل الأمر نحو: إحسانا من قوله تعالى:
" وبالوالدين إحسانا ."
ومواضع
المسند إليه هي :
١ - فاعل الفعل التام وشبهه نحو : انتصر
المدافعون عن أوطانهم.
فالمدافعون وهو الفاعل هنا قد
أسند إليه الانتصار، ولهذا فهو المسند إليه. والشبيه بالفعل مشتقاته، كاسم الفاعل والصفة المشبهة من نحو: أنت الحسن خلقه، فخلقه وهو فاعل
الصفة المشبهة قد أسند إليه الحسن، ولذلك فهو المسند إليه.
٢ - نائب الفاعل : نحو يكرم الضيف، فالضيف وهو نائب الفاعل قد أسند إليه الكرم، فهو المسند إليه.
٣ - المبتدأ الذي له خبر : نحو الحياة من قولك:
الحياة كفاح.
٤ - ومرفوع المبتدأ المكتفي به : نحو: فضلك من قولك: ما مجحود فضلك.
٥ - ما أصله مبتدأ : ويشمل اسم كان وأخواتها نحو العامل من قولك
ظل العامل مشتغلا، واسم إن وأخواتها نحو: الحق من قولك: لعل الحق يظهر، والمفعول
الأول للأفعال التي تنصب مفعولين نحو:
الصديق من قولك: حسبت الصديق مسافرا، والمفعول الثاني للأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل نحو: الإهمال من قولك : أنبأت المقصر الإهمال ضارا.
فالمسند والمسند إليه
هما ركنا الجملة الأساسيان، وما زاد عليهما غير المضاف إليه وصلة الموصول فهو قيد والقيود هي: أدوات
الشرط، وأدوات النفي، وحروف الجر، والمفاعيل الخمسة المفعول به، والمفعول المطلق، والمفعول فيه، والمفعول لأجله، والمفعول
معه، والحال، والتمييز، والتوابع
الأربعة : النعت، والعطف والتوكيد، والبدل.
أحوال المسند والمسند إليه :
والمسند والمسند إليه
اللذان يمثلان جزأي الجملة أو ركنيها الأساسيين قد تلحقهما لأغراض بلاغية أحوال من
الذكر والحذف، أو التقديم والتأخير، أو التعريف والتنكير، أو التقييد، أو القصر،
أو الخروج عن مقتضى الظاهر في المسند إليه وفي غيره، وفيما يلي بيان أهم هذه الأحوال :
الحذف
أ- حذف المسند إليه :
المسند إليه أحد ركني
الجملة، بل هو الركن الأعظم لأنه عبارة عن الذات، والمسند كالوصف له، والذات أقوى
في الثبوت من الوصف. وإذا كانت الإفادة تفتقر إلى كليهما فإن افتقارها وحاجتها إلى
الدال منهما على الذات الثابتة أشد في الحاجة عند قصد الإفادة من الدال على الوصف
العارض.
وحذف المسند إليه
يتوقف على أمرين: أحدهما وجود ما يدل عليه عند حذفه من قرينة، والأمر الآخر وجود المرجح
للحذف على الذكر. أما الأمر الأول وهو وجود القرينة الدالة على المسند إليه عند
حذفه فمرجعه إلى علم النحو، وأما الأمر الثاني وهو المرجح لحذفه على ذكره فمرده
إلى البلاغة.
ومعنى ذلك أنه توجد
مقتضيات ودواع بلاغية ترجح حذف المسند إليه على ذكره. والمسند إليه الذي يكثر حذفه هو: المبتدأ أو الفاعل، وفيما
يلي أهم الدواعي التي ترجح حذف
كليهما.
دواعي
حذف المسند إليه إذا كان مبتدأ :
١ - الاحتراز عن العبث: وذكر المسند إليه في
الجملة ليس عبثا في الحقيقة لأنه ركن للإسناد، ولكن المراد هنا بالاحتراز من العبث أن ما قامت عليه القرينة وظهر عند المخاطب يعد ذكره عبثا من حيث أنه
يقلل من قيمة العبارة بلاغيا.
فإذا تقرر ذلك قلنا
إن المبتدأ يكثر حذفه لداعي الاحتراز عن العبث في المواضع التالية:
أ- إذا وقع
المبتدأ الذي هو المسند إليه في جواب الاستفهام، نحو قوله تعالى في شأن الهمزة اللمزة: كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما
الحطمة؟ نار الله الموقدة، أي هي نار الله الملتهبة التهابا شديدا. وقوله
تعالى:
فأما من
ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه؟
نار حامية ، أي هي نار حامية وقوله تعالى وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين؟ في سدر مخضود وطلح منضود ، أي هم في سدر مخضود وطلح منضود.
ب- وإذا
وقع بعد الفاء المقترنة بجواب الشرط، نحو قوله
تعالى:
" من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها " أي فعمله لنفسه، وإساءته عليها.
وقوله تعالى:
" وإن تخالطوهم فإخوانكم، أي فهم إخوانكم. "
وقوله
تعالى " فإن لم
يصبها وابل فطل، أي فهو طل" .
ونحو قوله تعالى
" لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤس قنوط،"
أي فهو يئوس قنوط ونحو قوله في شهود المداينة بالدين
" واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان "
أي فالشاهد رجل وامرأتان.
ج- وإذا
وقع المبتدأ بعد القول وما اشتق منه نحو قوله
تعالى :
" فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم "
، أي أنا عجوز عقيم
وقوله
تعالى: " وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي
تملى عليه بكرة وأصيلا "
أي قالوا القرآن
أساطير الأولين وقوله تعالى في أصحاب الكهف
" سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب،
ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم " أي
يقولون: هم ثلاثة، ويقولون: هم خسمة، ويقولون: هم سبعة.
٢ - ضيق المقام عن إطالة الكلام إما لتوجع وإما لخوف فوات فرصة.
فمن أمثلة حذف
المبتدأ لضيق المقام للتوجع قول الشاعر:
قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل سهر دائم وحزن طويل
أي قلت: أنا عليل وهذا يصلح مثالا
أيضا للمبتدأ المحذوف بعد القول.
ومن أمثلته أيضا قول
الشاعر:
لم تبكين؟ من فقدت؟
فقالت والأسى غالب عليها: حبيبي
أي قالت: الفقيد حبيبي
.
ومن أمثلة حذف المبتدأ
لضيق المقام من خوف فوات الفرصة قولك عند رؤية نار تنبعث فجأة من منزل مجاور: حريق تريد: هذه حريق .
وكقولك عند رؤية شخص
يعوم في البحر ثم يختفي في مائه ولا يظهر:
غريق تريد: هذا غريق وقول
الصياد : غزال يريد: هذا غزال.
٣ - تيسير الإنكار عند الحاجة إلى الإنكار:
وتفصيل ذلك أنه قد
تجد مواقف يصرح فيها المتكلم بذكر شيء ثم تدعوه اعتبارات خاصة إلى جحدها وإنكارها
مثال ذلك أن يذكر شخص بعينه في معرض الحديث عن
الكرم والكرماء، فيبدي فيه أحد الحضور رأيه قائلا
: بخيل شحيح - يريد: هو بخيل شحيح.
فحذف المبتدأ في هذا
الموقف تقتضيه البلاغة، لأن في حذفه فرصة لصاحب الرأي أن ينكر نسبة هذا الرأي إلى
نفسه ولو أنه صرح بذكره فقال مثلا
- فلان بخيل شحيح، لأقام البينة على نفسه بهذا التصريح ولما استطاع
الإنكار.
٤ - تعجيل المسرة بالمسند ، كأن يلوح شخص بكأس فاز بها في مسابقة قائلا: جائزتي يريد: هذه جائزتي ونحو قول
القائل دينار. يريد : هذا
دينار.
٥ - إنشاء المدح أو الذم أو الترحم فالمسند إليه إذا كان مبتدأ يترجح حذفه إذا قصد به إنشاء المدح أو
الذم أو الترحم، وكان في الكلام قرينة تدل عليه.
فمن أمثلة حذفه
لإنشاء المدح قولنا: الحمد لله أهل الحمد برفع أهل ، أي هو أهل الحمد. ومنه قولهم، بعد أن
يذكروا الممدوح، فتى من شأنه كذا وكذا، وأغر من صفته كيت وكيت، كقول الشاعر:
سأشكر عمرا
ما تراخت منيتي أيادي
لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير
محجوب الغنى عن صديقه ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
أي هو فتى ... الخ.
ومن أمثلة حذفه
لإنشاء الذم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم برفع
الرجيم، أي هو الرجيم. ومنه قول الأقيشر في ذم ابن عم له موسر سأله فمنعه، فشكاه
إلى القوم وذمه، فوثب إليه ابن عمه ولطمه:
سريع إلى
ابن العم يلطم وجهه وليس إلى داعي الندى بسريع
حريص على
الدنيا مضيع لدينه وليس لما في بيته بمضيع
يريد : هو سريع إلى ابن العم، وهو حريص على الدنيا، وهو مضيع لدينه ومن أمثلته في الترحم اللهم
ارحم عبدك المسكين برفع المسكين، أي: هو
المسكين.
دواعي
حذف المسند إليه إذا كان فاعلا :
والدواعي أو الأغراض
التي تدعو المتكلم إلى حذف الفاعل كثيرة جدا، ولكنها على كثرتها لا تخلو من أن
سببها إما أن يكون شيئا لفظيا أو معنويا.
فمن الدواعي اللفظية
لحذف الفاعل القصد إلى الإيجاز في العبارة نحو قوله تعالى:
" وإن عاقبتم
فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " أي: بمثل ما عاقبكم المعتدي به، ولما كان في الكلام
قرينة تدل على الفاعل، فقد اقتضت البلاغة حذفه
مراعاة للإيجاز
وإقامة المفعول مقامه.
ومنها المحافظة على
السجع في الكلام المنثور نحو قولهم : من طابت سريرته حمدت سيرته؛ إذ لو قيل حمد
الناس سيرته لاختلف
إعراب الفاصلتين سريرته وسيرته .
ومنها المحافظة على
الوزن في الكلام المنظوم كما في قول الأعشى ميمون بن قيس:
علقتها
عرضا وعلقت رجلا غيري
وعلق أخرى غيرها الرجل
فالأعشى هنا قد بنى الفعل علق ثلاث مرات للمجهول، لأنه لو
ذكر الفاعل في كل مرة
منها أو في بعضها لما استقام وزن البيت.
ومن الدواعي المعنوية لحذف الفاعل:
١ - كون الفاعل معلوما للمخاطب حتى لا يحتاج إلى ذكره له نحو قوله تعالى:
" وخلق
الإنسان ضعيفا " أي: خلق
الله الإنسان ضعيفا.
٢ - كون الفاعل مجهولا للمتكلم فلا يستطيع تعيينه للمخاطب، وليس في ذكره بوصف مفهوم من الفعل فائدة، وذلك كما تقول: سرق متاعي ، لأنك لا تعرف ذات السارق،
وليس في قولك سرق
السارق متاعي فائدة
زائدة في الإفهام على قولك سرق
متاعي
وقوله تعالى أيضا:
" فإذا
قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضله
" أي: فإذا قضيتم الصلاة
٣ - رغبة المتكلم في الإبهام على السامع ، كقولك : تصدق
بألف دينار.
٤ - ورغبة المتكلم في إظهار تعظيمه للفاعل : وذلك بصون اسمه عن أن يجري على لسانه، أو بصونه
عن أن يقترن بالمفعول به في الذكر، كقولك: خلق
الخنزير.
٥ - رغبة المتكلم في إظهار تحقير الفاعل: بصون
لسانه عن أن يجري بذكره، كمن يقول
في وصف شخص يرضى الهوان والذل: يهان
ويذل فلا يغضب
٦ - خوف المتكلم من الفاعل أو خوفه عليه، كمن يقول: قتل
فلان، فلا يذكر القاتل خوفا منه أو خوفا عليه.
٧ - عدم تحقق غرض معين في الكلام بذكر الفاعل، نحو قوله تعالى
" إنما المؤمنون
الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا،
قد بني الفعلان ذكر وتلي للمجهول لعدم تعلق الغرض بشخص الذاكر والتالي.
ونحو قول الفرزدق في
مدح علي بن الحسين :
يغضي حياء
ويغضي من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم
فبني الفعل «يغضي الثاني
للمجهول، لأن ذكر الفاعل هنا لا يحقق غرضا معينا في الكلام، لأن معرفة ذات المغضي
لا تعني السامع.
ويحسن التنبيه هنا
إلى أن حذف الفاعل في جميع الأمثلة السابقة هو حذف للمسند إليه الحقيقي، وإن كان
المسند إليه في اللفظ وهو نائب الفاعل مذكورا.
ب- حذف المسند :
وكما توجد دواع لحذف
المسند إليه كذلك توجد دواع ترجح حذف المسند سواء أكان خبرا أو فعلا إذا دل عليه
دليل وفيما يلي بيان لأهم هذه الدواعي .
دواعي
حذف المسند الخبر :
١ - الاحتراز من العبث بعدم ذكر ما لا ضرورة لذكره، وهذا من شأنه أن يكسب الأسلوب قوة ويضفي عليه جمالا.
ويكثر حذف الخبر لهذا
الداعي أو الغرض إذا جاءت الجملة التي يرد فيها الحذف جوابا عن استفهام علم منه
الخبر، كأن يسألك سائل: من شاعر
العربية الأكبر؟ فتجيب أبو
الطيب المتنبي تريد:
أبو الطيب المتنبي شاعر العربية الأكبر وكأن يسأل آخر:
من عندكم؟ فيجيب ضيف أي : عندنا ضيف
وكأن يسأل ثالث : ماذ في يدك ؟ فيجيب كتاب
يريد: في يدي كتاب.
كذلك يكثر حذف الخبر
في الجملة الواقعة بعد إذا الفجائية على رأي من يعدها حرفا للمفاجأة، وكان الخبر المحذوف يدل على معنى عام يفهم من سياق الكلام نحو
" خرجت من البيت وإذا العواصف، وسرت في الطريق وإذا المطر " أي: إذا العواصف شديدة، وإذا المطر نازل فالخبر في هذين المثالين يدل على معنى عام هو
الشدة في المثال الأول، والنزول في المثال الثاني، وكلاهما مفهوم من سياق الكلام.
ويكثر حذف الخبر أيضا
إذا كانت الجملة المحذوفة الخبر معطوفة على جملة اسمية أو معطوفا عليها جملة اسمية
والمبتدآن مشتركان في الحكم نحو قوله تعالى: أكلها دائم وظلها؛ أي: وظلها دائم وقوله تعالى أيضا:
" وطعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ؛ أي: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا
الكتاب حل لكم.
ونحو قول الفرزدق :
وليس قولك من هذا
بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
يريد : والعجم تعرف من أنكرت أيضا.
ونحو قول شاعر آخر:
نحن بما
عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
يريد : نحن بما
عندنا راضون وأنت بما عندك راض وقد حذف
خبر الجملة الاسمية الأولى لأنه عطف عليها بجملة اسمية أخرى والمبتدآن مشتركان في
الحكم.
وداعي الحذف هنا هو
الاحتراز عن العبث والقصد إلى الإيجاز مع ضيق المقام، ودلالة خبر المبتدأ الثاني
على خبر المبتدأ الأول هو الذي جعل حذفه سائغا سهلا.
دواعي حذف المسند الفعل :
وأهم دواعي حذف
المسند الفعل الاحتراز عن العبث بعدم ذكر ما لا ضرورة لذكره أيضا. ويكثر ذلك في
جواب الاستفهام، أي إذا جاءت الجملة المحذوفة المسند جوابا لسؤال محقق نحو قوله تعالى: " ولئن سألتهم
من خلق السماوات والأرض ليقولن الله،"
أي : ليقولون خلقهن الله.
كذلك إذا جاءت الجملة
المحذوفة المسند جوابا لسؤال مقدر نحو قول ضرار بن نهشل يرثى أخاه :
ليبك يزيد
ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
وذلك ببناء ليبك للمجهول، وكأن
سائلا سأل : من يبكي يزيد؟
فأجيب: ضارع
ومختبط، أي : ليبكه ضارع لخصومة، وليبكه مختبط ...
كتاب البلاغة السهلة للأستاذ / عبدالرحمن معوض
ج- حذف
المفعول به :
والمفعول به قد يحذف
لدواع وأغراض بلاغية، شأنه في ذلك شأن المسند إليه والمسند ومن أهم هذه الدواعي والأغراض :
١ - إفادة التعميم مع الاختصار : نحو قوله تعالى: "
والله يدعوا إلى دار السلام "
أي يدعو جميع عباده، لأن حذف
المعمول يؤذن بالعموم.
وهذا التعميم يمكن أن
يستفاد من ذكر المفعول بصيغة العموم كقولنا يدعو
جميع عباده ولكن ذلك
من شأنه أن يفوت مزية الاختصار أو الإيجاز.
٢ - تنزيل الفعل المتعدي منزلة الفعل اللازم : وذلك لعدم تعلق الغرض بذكر المفعول، لأن المراد في مثل هذه الحالة
هو إفادة مجرد ثبوت الفعل للفاعل أو نفيه، نحو قوله تعالى
" قل هل
يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟" فالمعنى: هل يستوي
من لهم علم ومن لا علم لهم؟ بغض النظر عن المعلوم أيا كان نوعه.
ونحو قول البحتري :
إذا أبعدت
أبلت وإن قربت شفت فهجراتها يبلي ولقيانها يشفي
فهو لم يقل: أبلتني وشفتني لعدم تعلق غرض الشاعر بذكر المفعول، لأن ما يريد أن
يعبر عنه هو أن إبعادها بلاء وداء وتقريبها شفاء.
٣ - مجرد الاختصار أو الإيجاز: نحو قوله تعالى: "
رب أرني أنظر إليك " أي: أرني ذاتك ونحو : أصغيت
إليه، أي أصغيت إليه أذني .
٤ - تحقيق البيان بعد الإبهام : وذلك لتقرير المعنى في النفس
.
ويكثر ذلك في فعل
المشيئة أو الإرادة أو نحوهما إذا وقع فعل شرط فإن الجواب يدل عليه ويبينه، نحو قوله تعالى:
" ولو
شاء الله ما اقتتلوا " أي: ولو شاء الله ألا يقتتلوا أو عدم اقتتالهم ما اقتتلوا فإنه لما قيل ولو شاء علم
السامع أن هناك شيئا تعلقت المشيئة الإلهية به لكنه خفي مبهم، فلما جيء بجواب
الشرط صار بينا واضحا يقع في النفس.
ومثله قوله تعالى " ولو شاء لهداكم أجمعين " أي : لو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين
وقوله
تعالى " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، أي: ولو شئنا هداية النفوس لآتينا كل نفس هداها".
وكذلك يكثر حذفه بعد
نفي العلم ونحوه، كقوله تعالى : " ولتعلم أن وعد
الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي :
لا يعلمون أن وعد الله حق
وكقوله تعالى : " وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس
قالوا أنؤمن كما آمن
السفهاء. ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون
"
أي: لا يعلمون أنهم سفهاء. وقوله
تعالى أيضا: ونحن أقرب إليكم ولكن لا تبصرون، أي: لا تبصرون أننا أقرب إليكم
ويكثر حذف المفعول به
أيضا في الفواصل نحو قلى من قوله تعالى:
" والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى" ونحو يخشى من قوله تعالى أيضا: " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة
لمن يخشى " ونحو أعطى
واتقى من قوله تعالى كذلك : " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى" ونحو يضرون من قوله جل شأنه: "واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما
تعبدون؟ قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم
أو يضرون؟."
فحذف المفعول في هذه
الأمثلة وما أشبهها هو للمحافظة على وحدة الحرف الأخير من الفواصل والذي ينزل في
النثر المسجوع منزلة حرف الروي في الكلام المنظوم.
الذكر
أ- ذكر المسند إليه :
الأصل في المسند إليه
أن يذكر في الكلام، ولا ينبغي العدول عنه إلا إذا كان هناك قرينة في الكلام ترجح
الحذف والاحتراز عن العبث. وأهم
الدواعي والأغراض التي ترجح ذكر المسند إليه على حذفه هي:
١ - ضعف التعويل والاعتماد على القرينة: أي يكون ذكر المسند إليه للاحتياط، لأن فهم السامع من اللفظ أقرب من
فهمه من القرينة، إما لخفائها أو لعدم الوثوق بنباهة السامع. فإذا استدعى أستاذ
أحد طلابه وكلمه في شأن ما، ثم سأله
أحد زملائه: ماذا قال لك أستاذنا ؟ فمثل هذا السؤال يمكن الجواب عليه بحذف المسند إليه مرة فيقال : قال لي كذا وكذا ويمكن
الجواب عليه بذكره مرة أخرى فيقال: أستاذنا
قال لي كذا وكذا، ولا شك أن ذكر المسند إليه في هذا المقام أبلغ لضعف التعويل على
قرينة السؤال في حالة الحذف، لأن بعض السامعين مثلا يجوز عليه الغفلة عن السماع
للقرينة، كما يجوز عليه عدم التنبه للفهم منها، ولو كان الفهم منها واضحا في نفسه.
٢ - القصد إلى زيادة التقرير والإيضاح: نحو قوله تعالى: " أولئك على هدى من
ربهم وأولئك هم المفلحون،" ففي تكرير اسم الإشارة أولئك زيادة تقرير وإيضاح لتميزهم بالشرف على غيرهم، فكما ثبت لهم أن تميزوا
باستئثارهم بالهدى في الدنيا ثبت لهم أيضا أن تميزوا باستئثارهم بالفلاح في الآخرة.
ونحو قول القائل: الوطنية الحقة أن تخلص لوطنك إخلاصك لنفسك،
والوطنية الحقة أن تبذل قصارى جهدك فيما تعمل له،
والوطنية الحقة أن
تلبي نداءه عن رضا في كل ما يدعوك إليه ذاك لأن عزتك من عزته، وشرفك من شرفه، وسلامتك
في سلامته فتكرار ذكر المسند إليه هنا الوطنية هو لزيادة التقرير والإيضاح.
٣ - بسط الكلام والإطناب فيه بذكر المسند إليه ولو دل عليه دليل، وذلك حيث يكون الإصغاء فيه من السامع مطلوبا للمتكلم لجلال قدره أو
قربه من قلبه.
ومن أجل ذلك يطال
الكلام مع الأحباء وذوي القدر وأولي العلم تلذذا بسماعهم وتشرفا بخطابهم وانتفاعا
بكلامهم ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام
" وما تلك بيمينك يا موسى؟ قال هي عصاي " ، وكان يكفيه في غير هذا المقام أن يقول في الجواب عصا ، لكنه ذكر المسند إليه هي لبسط الكلام رغبة منه في أن يطيل الحديث في مناجاته لربه ليزداد بذلك
شرفا وفضلا. ولذلك زاد على الجواب بقوله:
" أتوكؤا
عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ."
وإنما أجمل المآرب
لأن تفصيلها يطول، وقد يفضي الطول إلى الخروج عن مقتضيات الفصاحة والبلاغة.
٤ - إظهار تعظيم المسند إليه بذكر اسمه : نحو قولك: الله ربي ومحمد نبيي، والإسلام ديني في جواب من سألك: من ربك ؟ ومن نبيك
؟ وما دينك ؟
٥ - إظهار تحقيره وإهانته: وذلك لما يحمله اسمه ويدل
عليه من معنى الحقارة، كقولك إبليس
اللعين هو الذي أخرج آدم من الجنة في جواب من سألك: من أخرج
آدم من الجنة ؟
٦ - التبرك والتيمن باسمه : كقولك:
محمد رسول الله خير الخلق.
ونحو: القرآن خير ما يحمله المسلم دائما في جواب من سأل: ما خير
ما يحمله المسلم دائما؟
٧ - الاستلذاذ بذكره وذلك في كل ما يهواه المرء
ويتوق إليه ويعتز به، نحو
قول
الشاعر بشارة الخوري :
الهوى والشباب والأمل
المنش ود توحى فتبعث الشعر حيا
وقول
عباس محمود العقاد:
الحب أن نصعد فوق
الذرى والحب أن نهبط تحت الثرى
والحب أن نؤثر لذاتنا
وأن نرى آلامنا آثرا
ب- ذكر المسند :
المسند كالمسند إليه
الأصل فيه الذكر، ولهذا لا يعدل عنه إلا لقرينة في الكلام تبرر حذفه ومن الأغراض التي ترجح ذكر المسند:
١ - الاحتياط لضعف القرينة وعدم التعويل عليها، كقولك: عنترة
أشجع وحاتم أجود في جواب
من قال: من أشجع العرب في الجاهلية وأكرمهم؟ فلو حذف
المسند أجود لفهم أن حاتما يشارك عنترة في الحكم السابق وهو الشجاعة ولهذا تعين التصريح بالمسند أجود من قبيل الاحتياط لاحتمال الغفلة عن العلم به من السؤال.
ومن أمثلة هذا النوع
أيضا: عقل في السماء وحظ مع الجوزاء فلو حذف المسند مع
الجوزاء لما دل عليه مسند الجملة الأخرى السابقة وهو في
السماء دلالة قاطعة، إذ يحتمل أن يكون الحظ عاثرا كما هو شأن الكثيرين من
أرباب المواهب والعقول.
---------------------------------------------------------------------------------
كتاب البلاغة السهلة للأستاذ / عبدالرحمن معوض
٢ - التعريض بغباوة السامع :
وذلك مثل
قولنا: سيدنا محمد نبينا ، في جواب من قال : من نبيكم؟ تعريضا بالسامع وأنه لو كان ذكيا
لم يسأل عن نبينا وهو المسند هنا، لأنه أظهر من أن يتوهم خفاؤه ومن أجل ذلك يجاب بذكر أجزاء الجملة إعلاما بأن
مثل هذا السائل غبي لا يكفي معه إلا التنصيص، لعدم فهمه بالقرائن الواضحة.
ومن التعريض بغباوة
السامع أيضا ذكر المسند فعله في قوله تعالى :
أأنت فعلت هذا
بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم
إن كانوا ينطقون.
فالمسند فعله قد اقتضى المقام ذكره تعريضا بغباوة السائلين وبأن الدافع على تكسير
الأصنام هو غيظ إبراهيم من كبيرهم هذا الذي يخصونه بتعظيم أكثر.
٤ - إفادة أن المسند فعل أو اسم :
فإن كان فعلا فهو يدل
بأصل وضعه على التجدد والحدوث مقيدا بأحد الأزمنة الثلاثة بطريق الاختصار.
وإن كان اسما فهو
يفيد بأصل وضعه كذلك الثبوت من غير دلالة على الزمان.
مثال ذلك قوله تعالى: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم فإن قوله : يخادعون
يفيد تجدد الخداع منهم مرة بعد أخرى مقيدا بالزمان من غير افتقار إلى قرينة تدل
عليه كذكر «الآن و الغد وقوله:
وهو خادعهم يفيد
الثبوت من غير دلالة على الزمان.
-----------------------------------------------------------------------------------
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء