pregnancy

الأستاذ / عبد الرحمن معوض - معلم خبير لغة عربية وتربية إسلامية - السنبلاوين - دقهلية


كتاب البلاغة السهلة 61 خصـــائص الشعر ومقوماته الفنية

 



 18- خصـــائص الشعر ومقوماته الفنية

مفهوم الشعر: 

 الشعر تعبير عن الحياة كما يحسها الشاعر من خلال وجدانه وتصوير لانعكاسها على نفسه ولقد لجأ الانسان إلى الشعر منذ نشأته الأولى ليصور إحساسه مدفوعا بحاجته الفطرية إلى التعبير عما يجيش بداخله مستعينا بالغناء و الإيقاع ، ثم عمق إحساسه ونضج إدراكه واتسعت آفاق دنياه وانفسحت آماله وتعقدت عواطفه وظل الشعر مع ذلك – وسيظل – يعبر عن عالمه النفسي و يساير عمق إدراكه للوجود و انفعاله بالحياة و اندماجه في الكون
و كلما تقدم الانسان وصقل ذوقه ورهف حسه إزدادت حاجته إلى الشعر وإلى الفن بوجه عام تبعا لازدياد شعوره بمعنوياته ووعيه لإنسانيته التي تميزه عن الحيوان الأعجم الذي يقوم وجوده على الضروريات المادية، ويخطئ من يظن أو يعتقد أن زمن الشعر قد ولى إلى الأبد ، لأننا في عصر التكنولوجيا والمعلوماتية والتطور العلمي الرهيب

المقومات الفنية للشعر هي  
 
التجربة الشعرية  

  الوحدة العضوية
  الصور التعبيرية بما فيها من الألفاظ و العبارات و الصور و الأخيلة و الموسيقى 
مفهوم التجربة الشعرية :

إذا سيطر على نفس الشاعر موضوع أو فكرة أو مشهد من مشاهد الحياة و عمق شعوره و انفعاله به و استغرق فيه متأملا مفكرا و أصغى إلى إيقاع النغم لهذه المعاناة في أعماق نفسه فهذه هي التجربة الشعرية  
نرى مثلا "إيليا أبو ماضي" في قصيدة" الطلاسم " و خاصة في طلاسم البحر يقف أمام ألغاز الوجود حائرا فيسائل البحر ويدير معه الحوار إلتماسا للوصول إلى أسرار الكون  
فهذه تجربة شعرية انفعل فيها الشاعر بهذا الموقف فجاءت قصيدة معبرة عن معاناة نفسية و صدى للنغم الداخلي الذي هز وجدانه  
ومن التجارب الشعرية ما هو ذاتي محض ، ومنها ما يتجاوز حدود الذاتية الخاصة للشاعر إلى آفاق عامة اجتماعية و إنسانية  
ومو ضوعات هذه التجارب لا يمكن حصرها ، فهي تتسع لكل ما تتسع له الحياة ، ولا يشترط أن يكون موضوعها شيئا عظيما ، فقد يكون عاديا أو أمرا هينا ، و الشاعر الأصيل هو الذي يستطيع أن يجد موضوعات تجاربه في كل ما حوله ، ما دام ينفعل به و يحس وقعه على وجدانه  و الشعر فن جميل ولهذا يتجه – أو يجب أن يتجه - إلى المثل العليا ليحقق شرط جماله وقوام فنيته ، و المقصود بالجمال هنا هو الجمال المعنوي الذي يجده الانسان في الخير و الفضيلة و الحق و الشرف العدل  

الصدق في التجربة الشعرية : 

هو الصدق الفني بمعنى أن يكون الشاعر صادق الشعور و الانفعال بتجربته و المراد بالصدق

و أن يعبر عما يجده فعلا في نفسه و يؤمن به، فلا تزييف، ولا تقليد لغيره  
و إذا انعدم الصدق في الشعر فقد قيمته الأدبية والجمالية ، كشعر المناسبات الذي يدفع إليه الشاعر دفعا لا عن إحساس صادق وإلهام، و لكن لمجرد إظهار البراعة في القول ، وكشعر الشعراء المقلدين الذين ينظمون فيما لا يحسون فيأتي كلامهم فاترا جامدا هامدا لا حياة ولا روح فيه
و الصدق في التجربة لا يستلزم أن يعانيها الشاعر بنفسه بل يكفي أن يتمثلها و يقوي شعوره بها و أن يتوافر له من الحس المرهف و المقدرة الفنية ما يمكنه من تصوير تجربته تصويرا حيا مؤثرا ورائعا يزرع فيها الروح والجمال وينقل القارئ إلى عوالم من الجمال والإبداع والعبقرية الفنية
الفكر في التجربة الشعرية :

 الشعر ليس مجردا من الفكر فالشاعر حين يصور تجربته و يعبر عن ذاته إنما يعبر في الوقت نفسه عن موقفه تجاه الحادث الذي أثر فيه و المشهد الذي انفعل به و هو بهذا يقدم لنا آراءه وأفكاره حتى لو لم يقصد إلى ذلك عمدا  
و بقدر ما يتاح للشاعر من خصب الفكر و عمق النظرة إلى الكون يتجاوز شعره حدود مكانه وزمانه فيؤثر فيمن لا تربطهم به رابطة الاقليم أو العصر  
و الأفكار لاتساق في الشعر سوقا تقريريا بل تأتي عبر وجدان الشاعر كما هو الحال في قصائد الشعر السياسي و الاحتماعي التي نجدها خصوصا في الكتب المدرسية ، فقد عبرت عن موقف الشعراء من قضايا المجتمع بأسلوب فني لا يقوم على السرد و التقرير فإذا ساق الشاعر الأفكار في شعره سوقا مجردا صارت ذهنية جافة و تحول الشعر إلى نظم لا روح فيه . ومن هذا اللون بعض الحكم و الأمثال التي ترد لبعض الشعراء غير ممتزجة بسيء من تجاربهم النفسية  
ماانتفع المرء بمثل عقلــــه           *       و خير ذخر المرء حسن فعله
اصحب ذوي الفضل أهل الدين      *        فالمرء منــسوب إلـى القرين
و لكن الحكمة إذا امتزجت تماما بتجربة الشاعر الذاتية ظلت في نطاق الشعر

التجربة الشعرية

للشعر مقومات تتنوع في تركيبها ولكن لا ينفرد أيُّها به  وأولى مقومات الشعر الصادق التجربة الشعرية؛ أي تأثر الشاعر بعامل معين أو بأكثر واستجابته إليه أو إليها استجابة انفعالية قد يكتنفها التفكير وقد لا يكتنفها، ولكن لا تتخلى العاطفة أبدًا عنها، إذ إنهما حينما تبتعدان يتجرد الشعر من أبدع صفاته الأصيلة ويصبح نظمًا خلابًا على أفضل تقدير، أو ينعت «بشعر الذكاء» تجاوزًا. والنماذج لذلك كثيرة غالبة، ومهمة النقد الفني تثبيطها بل استئصالها. وحينما يُصبح الشعر موضوعيًّا فإنَّ الشاعر القدير في قصته أو في ملحمته يتمثل العواطف لشخصيات روايته ويخلعها عليها كما يصنع الممثل على المسرح، أو يُعبر عن إحساسه ضمن الموضوع الذي يُعالجه

والتجربة الشعرية قد تكون عظيمة كما قد تكون تافهة في ظاهرها، ولكنَّ الشاعر الكبير قادر بتأثره وتفاعله على إبداع الجليل من التافه؛ لأنَّه يراه بمرآة نفسه الكبيرة التي كيفتها عوامل شتى ممتازة، ويتمثل الإنسانية عامة لا شخصية فردٍ في شعره، وهكذا يأتي بالممتاز المعجب من أبسط التجاريب في ظاهرها المألوف. وقد تكون العاطفة متجلية في الشعر، كما قد تكون مستورة  ومن الطراز الأول عاطفة الود التي أنطقت المتنبي بمثل هذه الأبيات الخالدة التي تناسب كل زمان ومكان، وتعبر عن شعور الإنسان إطلاقًا، وإن كانت مناسبتها الظاهرة عتب المتنبي على سيف الدولة قُبيل النزوح عنه

يا من يعزُّ علينا أن نفارقهم             وجداننا كلَّ شيءٍ بعدكم عدمُ

 ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ              لو أن أمركمو من أمرنا أممُ

 إن كان سرَّكمو ما قال حاسدنا          فما لجرحٍ إذا أرضاكمو ألمُ

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا         أن لا تفارقهم فالراحلون همو

 فهنا الحرقة أو اللوعة لا تخص أبا الطيب وحده، وإنَّما هي شعور الإنسانية عامةً إزاء الود الضائع والعقوق والكفران. ومن الطراز الثاني عاطفة الإعجاب التي أوحت مثل هذا الشعر إلى ابن هانئ الأندلسي في وصف الخيل وقد كان مفتونًا بها

وصواهل لا الهضب يوم مغارها       هضبٌ، ولا البيدُ الحزون حزونُ

                   عرفت بساعة سبقها، لا أَنَّها            علقت بها يوم الرهان عيونُ

 وأجلُّ علم البرق فيها أنَّها               مرت بجانحتيه وهي ظنونُ

 

فهذا الفتون ببراعة الخيل وجمالها هو بمثابة تصوف في لون من جمال (الطبيعة) وهو شعور إنساني خالد  وكلا النموذجين من النسق العالي، وكلاهما يمتزج فيه الفكر بالعاطفة امتزاجًا سائغًا، وهذا عندي أرقى الشعر، وإن عددت في مستواه نماذج من الشعر الصافي يمليها العقل الباطن وحده

 ومن النماذج الرائعة المرددة للشعر الفكري العاطفي دالية المعري الرثائية التي يقول في مطلعها

غير مجدٍ في ملتي واعتقادي               نوح باكٍ ولا ترنُّم شادِ

 وشبيه صوت النعي إذا قيـ  ـس           بصوت البشير في كل نادِ

أبكَتْ تلكمو الحمامة أم غنـْ  نَت         على فرع غصنها الميَّادِ؟

صاحِ! هذي قبورنا تملأ الرَّحــب        فأين القبور من عهد عادِ؟

خفف الوطء! ما أظنُّ أديم الـ            أرض إلا من هذه الأجسادِ!

وقبيح بنا، وإن قدم العهـ   ـد             هوان الآباء والأجدادِ

 

فالجانب العاطفي في هذه التجربة الشعرية الرائعة هو ألم المعري من الحياة، كما كان يألم شوبنهاور، واشتهاؤه زوالها وقد أَنَّ من الألم

تعبٌ كلها الحياة فما أعــجب      إلا من راغب في ازدياد

 

 والجانب الفكري متغلغل في صميمها وإن برز مستقلًّا في مثل هذين البيتين

والذي حارت البرية فيه           حيوان مستحدث من جماد

 فاللبيب اللبيب من ليس           يغترْ رُ بكون مصيره للفساد

وهو في هذا الشعر العظيم المعبر الأمين عن مأساة الإنسانية وحيرتها الكبرى في جميع الأزمان

ومن نماذج الشعر الصافي الذي تدعمه العاطفة مستقلة في مجمله في النهاية ولا تجد فيها الإنسانية إلهامًا ولا عزاء أو سلوى. وبين الشواهد على ذلك نظم الكثيرين الذين روى لهم السيوطي في (نظم العقيان)

إنَّ التجربة الشعرية هي الدعامة الأولى للشعر، فإذا افتقدت لم تكن للموسيقى النظمية ولا لمتانة الديباجة ولا للتخيل المصطنع أية فائدة للفن، بل كانت جميعها مفردات أو تراكيب للافتعال وللتحايل على الشعر، وما كان التطفُّل على الفن فنًّا. والشاعر الذي لا تشمل روحه الكونيات الخالدة ليس إلا شاعر نفسه أو بيئته أو زمنه أو موضوعه المحدود

وكان بودي أن أضمِّن هذا التصدير الوجيز في التجربة الشعرية نماذج خالدة من الشعر العصري وعلى الأخص في العالم الجديد تؤيد وجهة نظري المتقدمة، لولا أنَّها عديدة، ولولا أني لا أحب أن يتوهم استشهادي بالبعض دليلًا على عدم اعتباري لما عداه، في حين أنِّي أعتز بالشعر العربي الأصيل الجميل قديمه وحديثه أينما كانت مصادره ومواطنه وكأني صاحبه  وما أقصد بهذا التصدير - استجابة إلى دعوة الناشرين - إلا خدمة الناشئين بين قرائي، وإجابة السائلين عن بعض آرائي الفنية، ثم الدفاع عن الشعر وعن حق الشعراء في تنويع إنتاجهم وفي التعبير عن تجاريبهم الشعرية حسب أذواقهم وحدها فهي - دون غيرها- التي تكيِّف نماذج الشعر وتغني آدابنا بروائعه المنوَّعة التي لن تحد ما تنوعت الإنسانية وما تجددت الحياة وما تعددت ضروب التفاعل معها

بقيت كلمة لا غنى عنها لمجانبة عامل غريب أساء إلى التجربة الشعرية في أدبنا، ألا وهو الأسلوب الخبري التقريري الذي يقوم على البيت وتصنع الحكمة المنظومة، فإنَّ هذا العامل التقليدي لم ينفع إلا الفحول من الشعراء المطبوعين الكلاسيكيين، وشتان بين قوة ابن دُريد في مثل هذا الشعر الحكيم الداعي إلى التبصر والمبشر بالكفاح والاحتمال

لو لابس الصخر الأصم بعض ما         يلقاه قلبي فض أصلاد الصفا

 إذا ذوى الغصن الرطيب فاعلمنْ         أنَّ قصاراه نفادٌ وتوى

 لا تحسبنْ يا دهر أنِّي صادع              لنكبة تعرقني عرق المدى

 مارست من لو هوت الأفلاك من         جوانب الجو عليه ما شكا

 

 أو قول أبي الطيب في الطبيعة الإنسانية

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله        وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

 لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى       حتى يراق على جوانبه الدَّمُ

 والظلم من شيم النفوس فإن تجد        ذا عفة فلعله لا يظلم

 ومن البلية عذل من لا يرعوي        عن غيه وخطاب من لا يفهم

 

أو قول أبي تمام في حرية الفكر والقول وفي الاضطرار إلى الهجرة

سأصرف وجهي عن بلاد غدا          بها  لساني معقولًا وقلبي مقفلا

 وإن صريح الحزم والرأي لامرئ     إذا بلغته الشمس أن يتحولا

وبين ألوف الأبيات النظمية السطحية التي تكومت أنقاضًا جيلًا بعد جيل إلى يومنا هذا، حتى أفسدت في أزمنة ذوق الأدباء وعرفانهم للجمال. وقد يطيب لي بحكم ذلك أن أحبذ الأسلوب الرمزي والأسلوب القصصي، وأنْ أتفاءل بتذوق أدباء العرب في أمريكا لهما، وأنْ أتمنى أن يعاون نهجهما على اجتثاث الإيحاء النظمي الفاسد وعلى تربية الملكة الشعرية حيثما يستطاع ذلك، فإنَّ الشعر على أيِّ حال طبعٌ وموهبة لا بهرج وصناعة، بل عقيدة فنية يُسعدني أنْ أقدِّم هذا الديوان المتواضع أحد قرابيني لها

    لم تعد القصيدة الحديثة استجابة لمناسبة طارئة، أو حالة نفسية عارضة، بل صارت من أعماق الشاعر حين يتأثر بعامل معين أو أكثر فيستجيب له أولها استجابة انفعالية قد يكتنفها التفكير وقد لا يكتنفها ولكن لا تتخلى العاطفة عنها أبدا   وهذا ولا شك اتجاه رومانسي في القصيدة وفي الانفعال بها وجعلها نابعة من أعماق نفس الشاعر، معبرة عن ذاته.

  ويقول لاسل آبركرومبي في كتابه "قواعد النقد الأدبي": إن لفظ التجربة ليس معناه هنا المحاولة، بل ما يعرض للإنسان من فكر أو إحساس: أو نحو ذلك  
   
ويقول ناقد آخر: العمل الأدبي هو التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية، فالعمل الأدبي وحدة مؤلفة من الشعور والتعبير، والانفعال بالتجربة الشعورية يسبق التعبير عنها   ويقول السحرتي الناقد: إن القيمة الفنية للقصيدة هي في تواؤم تجربتها الشعرية مع صياغة هذه التجربة    
   
ولقد كانت القصيدة العربية في أغلب الأمر تعبيرا عن مناسبة طارئة أو عن حالة نفسية عارضة، وكانت لا تعبر عن ذات الشاعر تعبيرا صادقا عميقا فثار بعض النقاد المعاصرين على كبار الشعراء الذين تقف قصائدهم على هذا المستوى وهاجم العقاد الشاعر شوقيا هجوما شديدا في كتاب الديوان قائلا لشوقي
   
 إن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء وإن كنت تلمح من وراء الحواس شعورا حيا ووجدانا تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية، وهناك ما هو أحقر من شعر القشور والطلاء وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة
   
ومن ثم حارب العقاد وزملاؤه شعر المناسبات ودعوا إلى أن تكون القصيدة تعبيرا عن وجدان الشاعر وذاته... وكان ممن دعا إلى ذلك أيضا مطران
   
ثم جاء أبو شادي فدعا إلى التجربة الشعرية بمعناها النقدي الذي لا يخرج عما ذكرناه وهو أن تكون القصيدة  نابعة من أعماق النفس معبرة عن ذات الشاعر،

 وفي ذلك يقول بعض النقاد: إن العمل الأدبي هو التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية، فالعمل الأدبي وحدة مؤلفة من الشعور والتعبير، والانفعال بالتجربة والشعور بها يسبق التعبير عنها
   
ولذلك حاربت المدارس الجديدة في الشعر العربي شعر المناسبات لأنه غالبا لا يكون تعبيرا عن أعماق نفس الشاعر ولا صدى لانفعال عميق بفكرة القصيدة
   
وإذا كانت أغلب قصائد الشعر العربي القديم قد قيلت في مناسبات طارئة، فإن معنى ذلك أن جملة الشعر العربي يبعد عن ذات الشاعر ووجدانه وعن أعماق نفسه
   
وإذا كنا نحكم بهذا المقياس فإننا نكون مخطئين غاية الخطأ، فإن الشعراء الذين يتحدثون عن مناسبة يتفاوتون، فهناك شاعر يترك المناسبة نفسها ليتحدث في أعماق نفس الموضوع وانفعاله به كمرثية المعري في الفقيه الحنفي، وقصيدة البحتري في إيوان كسرى، مثلا، فالشاعران كلاهما قد تجاوزا المناسبة إلى صميم الموضوع وعبرا عن انفعالهما به. وهناك شعراء يقفون عند حد المناسبة ذاتها لا يعبرون في قصائدهم عن انفعال ولا يصدرون عن عاطفة قوية، فذلك الشعر هو المعيب في حد ذاته لأن الشاعر لم يعبر عن ذاته ووجدانه وانفعاله بموضوع القصيدة تعبيرا قويا مؤثرا
   
وفي الشعر العربي القديم والحديث صور كثيرة لتجارب شعرية مؤثرة

 كقصيدة ابن زريق البغدادي :
لا تعذيله فإن العذل يولعـه          قد قلت حقا ولكن ليـس يسمعـه
:    وقصيدة المتنبي
عيد بأية حال عدت يا عيد          بما مضى أم لأمر فيـك تجديـد
 
: وقصيدة البحتري في إيوان كسرى
صنت نفسي عما يدنس نفسي        وترفعـت عن جـدا كل جبـس
   
ومنها مرثية مالك بن الريب لنفسه  ومنها كذلك قصيدة العودة لإبراهيم ناجي، وقصيدة الأشواق التائهة للشابي، وقصيدة الشاعر والسلطان الحائر لأبي ماضي
   
والتجربة الشعرية تشتمل على حدث فكري نفسي، أي موقف معين للشاعر، عاشه أو عاش فيه من فاتحته إلى خاتمته لأول مرة بحيث أبرزه عملا قائما بنفسه، عملا له كيانه وله صفاته، وله وضوح التجارب الكبرى التي تمر بنا في حياتنا، ففيه وضوح الرؤية، وهو يتكون من جزئيات كثيرة ركز فيها الشاعر تأملاته وتنقل تنقلا طبيعيا فيها من جزء إلى جزء، وكأنما هو بإزاء بناء كبير يريد أن يقيمه    والأحاسيس والمشاعر هي أهم العناصر في القصيدة أو في التجربة الشعرية كما يقول شوقي ضيف ، ومن عناصر التجربة كذلك الفكر أو العقل إذ هو الذي ينظم الأحاسيس ويهيمن عليها ويقيم من شتاتها بناء متكاملا، ويأتي بعد ذلك الخيال بتركيبه للصور والموسيقى بإيحاءاتها الحالمة
   
ولابد من أن تكون التجربة صادقة بأن يكون الشاعر قد عاشها أو أدمن فيها ملاحظته واستغراقه الفني وعاش في حقيقتها الفنية
   
وكلما قربت التجربة من عمل مثالي أو بطولي أو ملحمي أو من الأمور الخارقة والأساطير أو من مثيرات العواطف والمشاعر كان ذلك أكثر توفيقا لها،

 ولذلك قال النقاد كالأصمعي: إن الشعر نكد يقوى في الشر ولا يقوى في الخير، واستدلوا على ذلك بضعف شعر حسان في الإسلام وقوته في الجاهلية. وقد أكد هذا المعنى الثعالبي في كتابه "خاص الخاص" إذ لاحظ أن حسانا حين كان يلهمه شيطانه كان قوي الشاعرية فلما تبدل الشيطان ملكا  ضعفت شاعريته  ،

ومثل هذا ما روي عن (ولز) الشاعر الانجليزي إذ قال له الملك شارل الثاني: إن الأناشيد التي نظمتها لي أقل شاعرية مما كنت تنظمه في كرومويل.. فقال الشاعر: سيدي، نحن معشر الشعراء ننجح في الأوهام خيرا من نجاحنا في الحقائق
   
: وقد تكون التجربة فكرية كما في قصيدة المعري
غير مجد في ملتي واعتقادي       نوح باك ولا ترنـم شـادي
   
وقد تكون فلسفية كما في قصيدة الطلاسم لأبي ماضي، وقد تكون وجدانية كما في قصيدة العودة، وقد تكون اجتماعية كما في قصيدة حافظ في حريق مدينة ميت غمر المروع
   سائلو الليل عنهم والنهـارا         كيف باتت نساؤهم والعذارى

  
 : الوحدة العضوية  

 المقصود بها وحدة الموضوع ووحدة الجو النفسي للقصيدة ، فلا يبدأ الشاعر مثلا بذكر أحباب له فارقهم ثم ينتفل فجأة إلى مدح أو هجاء دون أن تكون هناك صلة معنوية بين ما بدأ به و ما انتقل إليه  
و ليس معنى وحدة الجو النفسي ثبات الشاعر على إحساس واحد في الموقف الشعري ، بل إن الشاعر قد تعتريه في هذا الموقف حالات شعورية متفاوتة ؛ من تهلل و إشراق أو حزن و انقباض ، من سخط و غضب أو استسلام و ضراعة و للتقريب نقول : إن القطعة الموسيقية تتفاوت أنغامها و قد تتعدد آلاتها لكنها تظل مع هذا التفاوت و التعدد مترابطة العناصر منسجمة الايقاع لا تحس فيها نشازا أو تنافرا أو تبديل بيت مكان آخر ، من تقديم و تأخير ،أو حذف بيت من القصيدة فهي وحدة متكاملة  
و الوحدة العضوية للقصيدة بهذا المفهوم الحديث ، لم تكن معروفة في أكثر من موضوع واحد ، كالغزل و الوصف و المديح و غيرها ، غبر أننا نلاحظ أن قصائد فحول الشعراء في مختلف العصور – وإن لم تظهر فيها الوحدة العضوية بهذا المفهوم – كان يسيطر عليها جو نفسي واحد يوجه القصيدة و ينتقل بها من موضوع إلى موضوع  
فمثلا قصيدة البارودي " في سرنديب " نرى الشاعر قد تنقل من الحديث عن الطيف إلى شكوى الأيام ، إلى الحديث عن الآمال التي تراوده ، إلى التأسي ورياضة النفس على الصبر و قد تنقل هذ التنقل دون أن ينفصل عن عالمه النفسي الذي يموج بهمومه و أشجانه ، موزعا بين اليأس و الرجاء ، مما يحفظ للقصيدة وحدتها النفسية على الرغم مما يبدو من تفاوت الأجواء التي تنقل فيها الشاعر  
وتعد الوحدة العضوية من مظاهر التجديد في الشعر العربي الحديث أخذ بها جيل الشعراء المجددين في الشرق العربي و في المهجر و حمل لواء الدعوة إليها و إلى غيرها من مظاهر التجديد طائفة من النقاد منهم : العقاد الذي يقول :"إن القصيدة ينبغي أن تكون عملا فنيا تاما يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة ، كما يكمل التمثال بأعضائه و الصورة بأجزائها و اللحن و الموسيقى بأنغامه بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة القصيدة و أفسدها فالقصيدة من الاشعر كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته " و يقول : " القصيدة بنية حية و ليست قطعا متناثرة يجمعها إطار واحد فليس من الشعر الرفيع تغير أوضاع الأبيات فيه و لا تحس منه ثم تغيير في قصد الشاعر و معناه

الوحدة العضوية    والوحدة الموضوعية     “وحدة الموضوع”
1- ما  الوحدة العضوية ؟

عندما تسمع بالوحدة العضوية فالمقصود يكون عملاً موحداً قائماً على فكر واحد وليس أفكار متفرقة داخل القصيدة الشعرية أو خطبة الجمعة مثلاً

وفي الوحدة الموضوعية يجول الشاعر أو الخطيب أو المتحدث في خواطر تدور حول الموضوع ولا يخرج عن هذه الخواطر لتناول موضوعات أخرى ليس لها صله عن الفكرة العامة للموضوع.

وعندما نتحدث عن الوحدة العضوية في الشعر العربي

--------------------------------------------------------------------------------

        كتاب البلاغة السهلة                                                           للأستاذ / عبدالرحمن معوض

نرى أن القصيدة العربية التي تتسم بالوحدة العضوية نجدها تنقسم في نفسها إلى وحدات أصغر وتسمى هذه الوحدات أبياتاً وكل بيت في هذه الوحدات يعدّ استكمالاً لما قبلة ومقدمة لما بعده.

2- من  روّاد الدعوة إلى الوحدة العضوية وتجسيدها في الشعر ؟

الشاعر خليل مطران.

شعراء مدرسة الديوان (العقاد، المازني، عبد الرحمن شكري)

شعراء مدرسة المهجر.

وتعد الوحدة العضوية بمثابة عنوان للتجديد في القصيدة العربية الحديثة لأنها باتت ميزاناً من موازين نقدها.

4- ما المقصود بوحدة الموضوع في الشعر؟

وحدة الموضوع في الشعر تعني أن يتحدث الشاعر في موضوع واحد ,ويسود حديثه فكراً مترابطاً وإحساساً متصلاً.

 علاقة الوحدة العضوية باالوحدة الموضوعية

الوحدة الموضوعية جانب من جوانب الوحدة العضوية التي هي أكثر شمولاً…حيث تشمل الوحدة العضوية وحدة الموضوع,ووحدة العاطفة,ووحدة المشاعر, وترابط الأفكار

ما هو ارتباط الوحدة الموضوعية بالوحدة العضوية ؟

هو أرتباط الجزء بالكل وإليك بيان ذلك:

1- الوحدة الموضوعية :

إذا كان النص في موضوع واحد , فهو ذو وحدة موضوعية، سواء كان هذا الموضوع مدحاً أو ذماً أو رثاءً على أن يكون النص مراعياً لمقتضى الحال

هل التزم الشعراء القدماء بوحدة الموضوع في أشعارهم؟

أغلب الشعراء القدماء لم يلتزموا بوحدة الموضوع

حيث أننا نرى الكثير من القصائد التي ينتقل فيها الشاعر من موضوع لآخر.

2- الوحدة العضوية :

العمل في الوحدة العضوية يكون عملاً فنياً تاماً بحيث إذا نظرت للقصيدة رأيتها كالجسد الحي يقومُ فيه كل عضو بعمله الخاص ولا يغني عنه عضو أو سائر الأعضاء الأخرى كما لا تغني الأذن عن اليد أو القلب عن المعدة فترابط عمل هذه الأعضاء كالترابط القائم بين أبيات قصيدة الوحدة العضوية.

لماذا الأسلوب القصصي يميز الوحدة العضوية ؟

لأن القصة مبنية على تلاحم الأجزاء ومرتبة وتعتمد على توالي الأحداث وتأثيرها في نفوس المتلقين .

ولذا كان من العلامات التي تميز الوحدة العضوية براعة الأسلوب القصصي الذي يساعد على الترابط والتلاحم بين الأبيات.

ما   السمات العامة للوحدة العضوية ؟

يمكن القول بأن الوحدة العضوية توحّد بين العناصر المتباعدة والمتنافرة، وتجمع بين الأجزاء المتعددة، وتُوازِن بين المستويات الفكرية والعاطفية. وعن طريق الوحدة العضوية نتلاش الحشو، وتُبتر الزوائد والاستطالات، ولا يظل في قصيدتنا إلا ما هو جوهري في الدلالة والتشكيل.

أهم سمات الوحدة العضوية :

تتمثل في الانسجام والتوازن بين أبيات القصيدة، ووظيفية الأعضاء، والتنامي

كيف تظهر فاعلية الوحدة العضوية؟

تظهر فاعلية الوحدة العضوية بحيث أن كل صورة جزئية في القصيدة تبدو للولهة الأولى وكأنها مستقلة، ويمكن دراستها على حدة، ولكن من خلال النظرة الشاملة إلى القصيدة يلاحظ الدارس أن كل صورة جزئية من تلك الصور تحتفظ بما يشبه الحبل السري الذي يربطها بغيرها ويربط غيرها بها مما يجعلك تنتقل من أثر إلى أثر ومن صوره إلى صورة حتى تتكون لديك صورة كلية لا تتكامل إلى بترابط هذه الأجزاء ببعضها البعض.

---------------------------------------------------------------------------------

        كتاب البلاغة السهلة                                                                 للأستاذ / عبدالرحمن معوض

ما الذي تبرزه الوحدة العضوية على القصيدة ؟

من خلال التفاعل الذي تفرضه الوحدة العضوية على القصيدة تبرز السمة الكلية، هذه السمة التي تتميز بالحرارة والحيوية، ووحدة الرؤيا والموقف الوجداني، والدلالات المثارة.

ما الذي نستطيع أن نكتشفه بعد فهم ودراسة الوحدة العضوية ؟

نستطيع أن نكتشف العضو الزائد أو العنصر المريض الذي قد يكون وراء الخلل الذي نحسُّ به خلال تلقينا المبدئي للقصيدة كما أننا نستطيع أن نميز بين قصيدة وأخرى من حيث مستويات الإبداع المختلفة فيها فدراسة الوحدة العضوية هي إذاً من مقومات الناقد

أهمية المنهج والمنهج الفلسفي لتحقيق الوحدة العضوية ؟

المنهج أساسٌ هام وجوهري لتحقّق الوحدة العضوية في العمل الفني ومن دونه يضطرب العمل…ومن هذا العمل الشعر الذي قد يفقد أداء مهمته التوصيلية ويصبح أداة هامة من أدوات التضليل للعامة.

والمنهج أيضاً هو الذي يحدد الشاعر من خلاله موقفه من الأشياء المستقلة عنه، ويضبط توازن رؤاه.

وهو وراء وضوح موقف الشاعر من الأشياء وصفاء الرؤيا، وعدم اضطرابها والموهبة دون منهج كالنهر دون مجرى، والتجربة دون منهج لا يمكن أن يضبطها ضابط.

ماذا يحدث إذا كان الشاعر مزدوجَ المنهج ؟

الوحدة العضوية بمقوماتها ستضعف وستأخذ صبغة الازدواج والتناقض وغالباً ما يؤدّي ذلك إلى ضعف فاعلية التلقي.

من أجل تحقيق الوحدة العضوية يجب تواجد مقوماً آخر وهو الخيال فما هو الخيال؟

الخيال هو قوة تصرف الشاعر في المعاني لينتزع منها صوراً بديعة…وهذه القوة هي أيضاً تصوغ الصور من عناصر كانت النفس قد تلقتها عن طريق الحس والوجدان ولعل المخيلة هنا تعتمد على قوة التذكر لدى الشاعر.

-ومن أجل تحقيق الوحدة العضوية وإنجازها لا بد من تواجد الخيال الذي نجده يتغذى من تجربة وثقافة الشاعر نفسه.

ملخص التجربة الشعرية

التجربة الشعرية :

( 1) مفهوم التجربة الشعرية :

هي الخبرة النفسية للشاعر " حين يمر بموقف ما أو يواجه موضوعًا ما " موضوع التجربة " فيتأثر به ويندمج فيه بعاطفته وفكره مستغرقًا متأملًا ويعبر عنه بالإطار الشعري الملائم له 0 ولمّا كان التعبير بالشعر سميت التجربة شعرية.

( 2 ) أنواع التجربة الشعرية :

 ( أ) تجربة ذاتية : وفيها يطيل الشاعر التأمل في عالمه الخاص به هو مثل قصيدة "المساء لمطران" و "صخرة الملتقى" لناجى و "الشاعر وصورة الكمال" لعبد الرحمن شكري.

( ب) تجربة عامة "إنسانية : وهى التي ينتقل الشاعر فيها من إطار عالمه الخاص إلى العالم المحيط به والذي يرتبط به ماديًا أو معنويًا أو روحيًا مثل: "كم تشتكى" لإيليا أبو ماضي و "النسور" لمحمد إبراهيم أبو سنة.

 (جـ) ذاتية تحولت إلى عامة: وهى التي ينفعل فيها الشعر بحدث معين ثم تقوى عاطفته ويشاركه الآخرون، مثل قصيدة " غربة وحنين " لشوقي.

 (3) موضوع التجربة: موضوعات التجربة الشعرية ومجالاتها متعددة.

- قد يكون موضوعًا إنسانيًا عامًا كمشاهدة الطبيعة، والقيم الإنسانية الخالدة كالكفاح والحرية.

1- قد يكون شيئًا ذاتيًا عاناه الشاعر بنفسه.

2- قد يكون أمرًا عاديًا كالزهرة الذابلة أو الفراشة الهائمة.

3- قد يستمد الشاعر موضوع التجربة مما يدور حوله في الحياة السياسية والاجتماعية.

4- قد يستمده من عالم الخيال البعيد عن الواقع مثل قصيدة الشاعر وصورة الكمال لعبد الرحمن شكري.

 (4) الصدق في التجربة:

 وهو أن يكون الشاعر صادق الانفعال في تجربته، وأن يعبر عما في نفسه حتى يأتي شعره تعبيرًا عن ذاته لا تقليدًا لغيره، والصدق الفني يمنح الشاعر حيوية الأداء وحرارة العاطفة وقوة التأثير.

 ( 5) عناصر التجربة الشعرية :

 (أ) الوجدان: وتسمى الشعور، الإحساس، الانفعال، العاطفة، الصدق الفني وهو مجموعة الانفعالات التي خضع الشاعر لسيطرتها.

(ب) الفكر: ويسمى موضوع الأبيات أو المعاني التي ساقها الشاعر. وهو الموضوع العام وما يندرج تحته من أفكار جزئية.

(جـ) الصورة التعبيرية أو الصياغة الشعرية:

 وهى التي تتمثل في الألفاظ والعبارات والصور والأخيلة والموسيقى والتي تتعاون مع بعضها في التعبير عن أفكار الشاعر وأحاسيسه.

 

أولا : الوجدان

(1) الوجدان: هو انفعال الشاعر بالتجربة وأحاسيسه النفسية من سخط أو حزن أو ألم أو حيرة، ويشترك في الوجدان "الصدق الشعوري" لأنه أساس الجودة في التجربة وإلا تحولت إلى نظم دون شعور. والوجدان يكسب التجربة ذاتيتها وروحها ويمنحها حيوية الأداء وقوة التأثير.

 (2) اختلاف الوجدان: يختلف نوع الوجدان بين شاعرين أمام مشهد واحد:

فحين نقرأ المساء لمطران نحس معه الحزن والكآبة والتشاؤم حتى أن كل مشاهد الطبيعة من حوله حزينة عابسة.

وحين نقرأ المساء لإيليا نراه متفائلًا سعيدًا يدعو المتشائمين إلى أن ينظروا لي الطبيعة الجميلة الساحرة في قوله:

أصغى إلى صوت الجداول
واستنشقي الأزهار فى
وتمتعي بالشهب في

 

جاريات في السفوح
الجنات ما دامت تفوح
الأفلاك ما دامت تلوح

من هنا نرى أن الشعر الجيد نتاج الفكر والوجدان معًا.

دور الوجدان:    يتمثل في أنه يعطى للتجربة ذاتيتها وروحها.

ملحوظة مهمة: إليك بعض المشاعر الإنسانية للاهتداء بها في معرفة عاطفة الشاعر:

الأسى والحزن والألم والمرارة - الفرحة والبهجة والسعادة الغامرة - الفخر والزهو - الشوق الحنين - التحسر والضيق والسخط  الإعجاب وإظهار الاعتزاز - التفاؤل والأمل  التشاؤم والاستسلام لليأس - التحدي والعزم -التهكم والسخرية - الإيمان بالوطن وحبه  

ثانيا الفكرة

(1) الفكرة في التجربة الشعرية عنصر جوهري، ويشترط لجودته:

- عمق ونفاذ النظرة بها إلى ما وراء المظاهر الحسية.

- وأن تكون الفكرة ممتزجة بالعاطفة ومصورة من خلال الوجدان، لأن الشاعر لا ينقل الحياة نقلًا مباشرًا ولأن

 الشعرَ نتاج الفكر والوجدان معًا فالفكر يعطى التجربة الموضوعية والدقة، والوجدان يعطيها الذاتية والروح.

 (2) أثر امتزاج الفكرة بالعاطفة:

يختلف شاعر عن شاعر في التعبير عن حقيقة واحدة نتيجة اختلاف أحاسيسه الوجدانية

 كما في قصيدتي "المساء" لمطران وإيليا أبو ماضي.

- إذا امتزجت الفكرة بالعاطفة انتقلت التجربة من الحدود الذاتية المقيدة بالشاعر وزمانه ومكانه إلى الآفاق الإنسانية العامة التي تجاوز حدود الزمان والمكان، وبذلك تكتسب التجربة الخلود.

- إذا كانت التجربة فكرًا خالصًا فقدت روح الشعر وحرارته وصارت فكرًا جافًا يخاطب العقل، ولا يحرك الإحساس، وحين ننتهي من قراءتها لا تترك فينا أثرًا ولا يعلق بذهننا شيء منها، هذا ما نراه في شعر الحِكم والأمثال يقول الشاعر:

ربابة ربة البيت
لها عشر دجاجات

 

تصب الخل في الزيت
وديك حسن الصوت

شعر لا يعبر عن حقيقة محددة أرادها الشاعر،وإنما هو شعور صوره الشاعر لأنه يلائم شخصية ونفسية جاريته (ربابة).

دور الفكر في التجربة:

يتمثل في أنه يضمن لها عنصر الدقة والموضوعية، ويساعد على تنسيق الخواطر والصور.

ثالثا الصورة التعبيرية

تتكون من:  ( أ) الألفاظ العبارات

       (ب) الصور والأخيلة                (جـ) الموسيقا.

( أ) الألفاظ والعبارات:

- الشعر هو الفن الوحيد الذي تلتقي فيه الفنون الجميلة، ففيه من الأدب فن الكلمة، ومن الموسيقى إيقاع النغم، ومن النحت: تجسيم المعاني، ومن الرسم تصوير المواقف الشعرية.

- واللفظ هو مادة التعبير وهو الأداة الساحرة التي ينقل بها الشاعر إلينا فكره ووجدانه.

- والشاعر لا يختار لفظته، ولا يصوغها مع غيرها عفوًا، وإنما يختارها ويصوغها مع غيرها، ليكسبها هذه الطاقة الفنية من المشاعر والدلالات التي تعطيها قيمتها وحياتها وأثرها في نقل التجربة، ومن هنا تختلف الدلالة التي تحملها اللفظة في المعجم عن دلالتها في التجربة الشعرية، فهي في المعجم تدل على معنى كلى عام، ولكنها في التجربة الشعرية قطعة من نفس الشاعر، تحمل ملامح فكره وروحه ودنياه، لذلك فليست هناك ألفاظ شعرية وأخرى غير شعرية بل يكتسب اللفظ شاعر يته من تناسقه مع الجو النفسي ومن جمال وقعه في موضعه.

 

يقول إيليا أبو ماضي:

نسى الطين ساعة أنه
وكسا الخز جسمه فتباهى

  

طين حقير فصال تيهًا وعربد
وحوى المال كيسه فتمرد

فكلمة "طين" تبدو غير شاعرية وتدل في المعجم على تلك المادة الترابية المبللة بالماء، يحاول الإنسان إزالتها إن لصقت بثيابه أو جسمه. ولكن "إيليا" استخدمها في مجال حث المتكبر على التواضع ببيان أصله فحمّلها من الدلالات والإيحاءات ما لا تغنى فيها لفظة أخرى في مجالها، فوقعت أجمل موقع.

 (ب) الصور والأخيلة:

عنصر التصوير له أثره القوى في نقل فكرة الشاعر وعاطفته، نقلًا قويًا لذلك يقال: إن الشاعر أفكارهٌ مصورة".

 أنواع التصوير:

1 الصورة الكلية "اللوحة الفنية": وهى الصورة الشعرية المكتملة المتسعة على امتداد الأبيات وهى تتكون من مجموعة متآلفة من الصور الجزئية تعرض لوحة متكاملة الأجزاء لمعنى من المعاني أو مشهد من المشاهد، ولها خطوط فنية تتمثل في اللون والصوت والحركة.

2 الصورة الجزئية: منها ما يعتمد على الخيال الجزئي من تشبيه أو استعارة أو كناية ومنها ما يعتمد على الواقع والدلالات التصويرية للألفاظ.

2  الخيال الشعري: هو الذي قام على إدراك الشاعر للأشياء إدراكًا عميقًا وتعاطفه واندماجه فيها، حتى نراه يخلع على الأشياء صفات ليست لها في حكم العقل، ولكنها مستمدة من روحها وجوهرها.

 

 

----------------------------------------------------------------------------------

        كتاب البلاغة السهلة                                                                 للأستاذ / عبدالرحمن معوض

 

ملخص موسيقا الشعر

الشعر موسيقى ذات أفكار وذلك لأن الشعر هو لغة التعبير عن العاطفة. والموسيقا هي أقرب الوسائل المؤثرة في العاطفة. فتبعث المتعة في نفس القارئ والسامع من أقرب طريق.

أنواع الموسيقا:

 (1) الموسيقى الظاهرة " الخارجية " تقوم على:

(أ) حركة الوزن (ب) إيقاع القافية(جـ) المحسنات اللفظية: جناس طباق حسن تقسيم ازدواج.

يقول مطران:

متفرد بصبابتي متفرد بكآبــــ

 

ـــتى متفرد بعنائي

فى البيت حسن تقسيم.

والتصريع: اتفاق الروي آخر حرف صحيح في البيت وإليه تنسب القصيدة في شطري البيت الأول مثل:

اختلاف النهار والليل ينسى

 

اذكرا لي الصبا وأيام أنسى

2) الموسيقا الخفية:

وهى التي تدركها النفس وتؤثر فيها داخليًا وهى تنبع من:

1 إيحاء الألفاظ 2 ترابط الأفكار وترتيبها 3 روعة التصوير 4 العاطفة الصادقة.

شروط جودة القافية:

1 تتفق مع موضوع القصيدة 2 أن تلائم الجو النفسي.

3 أن توافق قواعد اللغة 4 أن تتلاءم مع موسيقى الأبيات.

5 ألا يكون قبلها كلمة أقوى منها أدت المعنى.

ملخص الوحدة العضوية فى القصيدة

المقصود بالوحدة العضوية أن تكون القصيدة بنية حيّة متكاملة وليست قطعًا متناثرة يجمعها إطار واحد أو هي تماسك القصيدة في ترابط فكرى وشعوري تتصل به أجزاؤها اتصالًا عضويًا دون تناقص أو تنافر

 وهى بهذا المفهوم تشمل:

 (1) وحدة الموضوع                  ( 2) وحدة الجو النفسي.

 أما إذا انتقل الشاعر من جو نفسي إلى جو نفسي آخر ليس بينهما ارتباط فقد انعدمت وحدة الجو النفسي وبالتالي ضاعت الوحدة الفنية أو الوحدة العضوية.

قال شوقي يصف قصر أنس الوجود:

قف بتلك القصور في اليم غرقى
كعذارى أخفين في الماءِ بضًّا

 

ممسكًا بعضها من الذعر بعضًا
سابحات به وأبدين بضا

فالصورة في البيت الأول تثير الشعور بالخوف والأسى والألم من مشهد الغرق واضطراب الغرقى.

والصورة في البيت الثاني توحي بشعور الخفة والمرح والسرور من مشهد الفتيات البكر الجميلات السابحات في البحر بأجسامهن الجميلة تحت الماء وعلى سطحه. وليس بين الصورتين في البيتين توافق وتناسق.

1-              تتابع الأفكار والصور:

بحيث تؤدى كل فكرة أو صورة وظيفتها الحيوية في بناء التجربة. وتعد الوحدة العضوية من مظاهر التجديد في شعرنا العربي الحديث تمسكت بها الرومانسية والمدرسة الجديدة وواضح أن هذه الوحدة الفنية تؤكد على صدق تجربة الشاعر.

 وأننا لا نستطيع أن نزيد أو ننقص ولو كلمة غير ما اختاره الشاعر فالوحدة العضوية هي التي تجعل القصيدة خلقًا متكاملًا أو صورة فنية حيّة تؤدى إلى الإقناع والإمتاع وهذا هو هدف العمل الأدبي بصفة عامة والشعر بصفة خاصة.

 التعبير عن الأفكار من خلال إقناع وإمتاع عن امتزاج فكر بوجدان عقل وعاطفة يسيران في خطين متوازيين.

شكرا لتعليقك