28 - التتميم
أول من ذكر التتميم وعده من محاسن الكلام عبد الله بن
المعتز في كتابه البديع . وقد سماه «اعتراض كلام في كلام لم
يتم معناه ثم يعود إليه فيتممه في بيت واحد ، ومثّل له بثلاثة أبيات من الشعر
منها:
لو أن الباخلين، وأنت منهم رأوك
تعلموا منك المطالا
فمبادرة الشاعر إلى الاعتراض بقوله « وأنت منهم » قبل
تمام معنى الكلام هو في الواقع تتميم قصد به المبالغة في بخل المخاطبة وأن
الباخلين وهي واحدة منهم جديرون بأن يتعلموا منها المطال.
ومن بعد ابن المعتز جاء قدامة بن جعفر فأطلق على هذا
المحسن البديعي اسم «التتميم» وعده من نعوت المعاني وعرفه بقوله: « هو أن يذكر
الشاعر المعنى فلا يدع من الأحوال التي تتم بها صحته وتكمل معها جودته شيئا إلا
أتى به ».
وقد استشهد عليه بأربعة عشر بيتا من الشعر، منها قول
نافع بن خليفة الغنوي:
رجال إذا لم يقبل الحق منهم ويعطوه
عاذوا بالسيوف القواطع
ثم يعلق على البيت قائلا: «فما تمت جودة المعنى إلا
بقوله «يعطوه»، وإلا كان المعنى منقوص الصحة»
ويبدو أن تعريف قدامة لهذا الفن البديعي لاقى استحسان
البلاغيين من بعده أكثر من تعريف ابن المعتز.
فأبو هلال العسكري اعتمد تعريف قدامة وأضاف إليه فأسماه «التتميم
والتكميل» وعرفه على حسب مفهومه له، وأورد عليه أمثلة كثيرة من القرآن الكريم
والنثر والشعر.
والتتميم والتكميل عند أبي هلال هو: أن توفي المعنى
حظه من الجودة، وتعطيه نصيبه من الصحة، ثم لا تغادر معنى يكون فيه تمامه إلا
تورده، أو لفظا يكون فيه توكيده إلا تذكره
وقد عرفه بعض رجال البديع بقوله: «والتتميم عبارة عن
الإتيان في النظم والنثر بكلمة إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه».
أقسام
التتميم :
والتتميم يأتي على ضربين: ضرب في المعنى وضرب في الألفاظ.
١ - فالتتميم
المعنوي :
هو تتميم المعنى، وهو المراد هنا، ويجيء للمبالغة
والاحتراس. ومجيئه في المقاطع والحشو، وأكثر مجيئه في الحشو.
ومن أمثلة مجيئه للاحتراس قول الله تعالى: " مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً. "
فقوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى تتميم وقوله وَهُوَ
مُؤْمِنٌ تتميم ثان في غاية البلاغة، فبذكر هذين التتميمين تم معنى الكلام وجرى
على الصحة. ولو حذف أحدهما أو كلاهما لنقص معنى الكلام واختل حسن البناء.
ومنه قول الرسول عليه السّلام :
«ما من مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة من غير
الفرائض إلا بنى الله له بيتا في الجنة».
ففي هذا الحديث وقع التتميم في أربعة مواضع هي: قوله
«مسلم» وقوله «الله» وقوله «كل يوم» وقوله «من غير الفرائض». فحذف أي من هذه
التتميمات ينقص من معنى الحديث الشريف ويقلل من قيمته البلاغية.
ومما ورد فيه التتميم المعنوي للاحتراس من النثر قول
أعرابية:
كتاب البلاغة السهلة
للأستاذ / عبدالرحمن معوض
«كبت الله كل عدو لك إلا نفسك» فبقولها: «نفسك» تمّ الدعاء؛ لأن نفس الإنسان تجري مجرى العدوّ له،
يعني أنها تورّطه وتدعوه إلى ما يوبقه ويهلكه.
ومن أمثلته شعرا قول عمرو بن برّاق:
فلا تأمنن الدهر حرا ظلمته فما ليل مظلوم كريم بنائم
فقوله: « كريم
» تتميم؛ لأن اللئيم يغضي على العار، وينام عن الثأر، ولا يكون منه دون
المظالم تكبّر.
ومنه أيضا قول طرفة :
فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي
فقوله: «غير
مفسدها إتمام للمعنى بالاحتراس والتحرز».
ومثال ما جاء منه للمبالغة قول زهير بن أبي سلمى :
من يلق يوما على علاته هرما يلق
السماحة منه والندى طرقا
فقوله: « على
علاته » تتميم للمبالغة.
ومن أبلغ ما ورد من التتميم للمبالغة قوله تعالى:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً فقوله:
عَلى حُبِّهِ
تتميم للمبالغة التي تعجز عنها قدرة المخلوقين.
٢ - والتتميم
اللفظي:
يقصد به التتميم الذي يؤتى به لإقامة الوزن، بحيث أنه
لو طرحت الكلمة استقل معنى البيت بدونها. وهذا النوع على ضربين أيضا: كلمة لا يفيد
مجيئها إلا إقامة الوزن، وأخرى تفيد مع إقامة الوزن ضربا من المحاسن، فالأولى من
العيوب، والثانية من النعوت والمحاسن.
والتتميم في الألفاظ الذي يفيد مع إقامة الوزن ضربا من
البديع هو المراد هنا،
ومثاله قول المتنبي:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه يا
جنتي لظننت فيه جهنما
فإنه جاء بقوله: «يا جنتي» لإقامة الوزن، ولكنها في
الوقت ذاته أفادت تتميم المطابقة بين «الجنة» و «جهنم».
لقد ذكرنا فيما سبق أن قدامة هو أول من
أطلق اسم «التتميم» على هذا النوع من البديع المعنوي، وأن أبا هلال العسكري استحسن
هذه التسمية فاعتمدها وأضاف إليها «التكميل».
وقد جارى بعض
البلاغيين أبا هلال في تسميته لهذا الفن البديعي،
وخلطوا التكميل بالتتميم، ولكن المتأخرين من أصحاب
البديع عادوا بهذا الفن إلى تسمية قدامة له، وذلك لما لحظوه من فرق بين
الأمرين.
فالتتميم عندهم يرد على المعنى الناقص فيتمه، والتكميل
يرد على المعنى التام فيكمله، إذ الكمال أمر زائد على التمام. والتمام أيضا يكون
متمما لمعاني النقص لا لأغراض الشعر ومقاصده، والتكميل يكملها.
ولمزيد من الإيضاح نورد هنا مثالا للتكميل وهو لكثير
عزة:
لو أن عزة حاكمت شمس الضحى في
الحسن عند موفق لقضى لها
فقوله: « عند موفق » تكميل حسن، فإنه لو قال: «عند
محكّم» لتمّ المعنى، لكن في قوله: «عند موفق» زيادة تكميل بها حسن البيت، والسامع
يجد لهذه اللفظة من الموقع الحلو في النفس ما ليس للأولى، إذ ليس كل محكّم موفقا،
فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله.
وتجدر الإشارة بعد دراستنا لكل من التتميم والإيغال
إلى أن هناك فارقا بينهما. فالتتميم كما ذكرنا يرد على المعنى الناقص فيتمه، على
حين يرد الإيغال على المعنى التام لختم الكلام شعرا أو نثرا مسجوعا بما يعطيه
قافيته، ويفيد في الوقت ذاته فائدة يتم المعنى بدونها كالمبالغة مثلا.
ولبيان أثر التتميم في تحسين المعنى وصحته وبلاغته
نقارن هنا بين بيتين لطرفة بن العبد وذي الرمة في معنى واحد. فطرفة في دعائه لديار
صاحبته بالسقيا يقول:
فسقى ديارك غير مفسدها صوب
الربيع وديمة تهمي
فقوله: «غير
مفسدها» فيه إتمام للمعنى بما يفيد أنه يدعو لديار صاحبته بأن يسقيها الغيث أو
المطر بالقدر المطلوب ، لا بالقدر الذي يزيد
عن حاجتها فيصيبها بالتلف والإفساد. فهذا التتميم
بالاحتراس من البديع حقا.
أما ذو الرمة ففي دعائه بالسقيا لدار صاحبته
يقول:
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ولا
زال منهلا بجرعائك القطر
فذو الرمة يدعو لدار صاحبته ميّ بالسلامة وبأن يظل
المطر ينهل وينصبّ على جرعائها انصبابا شديدا. وهذا بالدعاء على دار صاحبته أشبه
منه بالدعاء لها، لأن القطر إذا انهل فيها دائما فسدت. وهذا العيب ناشئ من أن
الشاعر لم يتم معناه، ولم يتحرّز فيه كما فعل طرفة في بيته.
-----------------------------------------------------------------------------------
كتاب البلاغة السهلة
للأستاذ / عبدالرحمن معوض
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء